بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: أشكل علينا قوله تعالى “وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم” (سورة المائدة الآية 5)، فأعننا على حل الإشكال والكشف عن خفي معناه،
قلت: كتاب الله أحق ما نبذل جهدنا في فهم غامضه، وتجلية مشكله وإيضاح خفيه، فاشكروا الله على أن وفقكم للاستهداء بتنزيله المحكم، واذكروا منشأ استصعابكم للآية،
قالوا: ما معنى الطعام هنا؟ وما موضع “وطعامكم حل لهم”؟، وأي حاجة لبيان هذا الحكم؟
قلت: هنيئا لكم العلم، والسؤال نصف العلم، دالا على تطلعكم إلى معرفة الوجه الصحيح في تأويل الآية، وحُقَّ لكم ولغيركم من سائر الطلاب أن يستفسروا عنها، فإنها آية جليلة ذات خطورة في موضعها من سورة المائدة، وقد أخطأتْ كتب التفسير في حملها المحمل اللائق بها والكشف عن مرادها.
قالوا: حدِّد لنا موضع الخطأ؟
قلت: إن عامة الكتب تفسر الطعام في الآية المسؤول عنها بالذبيحة، أي: ذبيحة الذين أوتوا الكتاب حل لكم. والطعام لم يستعمل في كتاب الله تعالى في معنى الذبيحة أبدا، ولا عرفت العرب هذا المعنى في شعرها وعامة كلامها، انظروا في موارد “الطعام” في سورة المائدة نفسها: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (المائدة ٧٥)، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ (المائدة ٨٩)، مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ (المائدة ٨٩)، لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا (المائدة ٩٣)، أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ (المائدة ٩٦).
ثم انظروا في موارد تلك الكلمة في السور الأخرى من كتاب الله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ (البقرة ٦١)، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (البقرة ١٨٤)، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا (المائدة ٩٥)، قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ (يوسف ٣٧)، إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ (الأحزاب ٥٣)، طَعَامُ الْأَثِيمِ (الدخان ٤٤)، وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (الحاقة ٣٤)، وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (الحاقة، ٣٦)، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (الغاشية ٦)، وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (الفجر ١٨)، وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (الماعون ٣)، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (البقرة ٢٤٩)، فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ (البقرة ٢٥٩)، كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (آل عمران ٩٣)، فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ (الأنعام ١٤)، وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ (الأنعام ١٣٨)، قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ (الأنعام ١٤٥).
فلم يأت “الطعام” في كتاب الله، لا في سورة المائدة ولا في غيرها من السور، بمعنى الذبيحة، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وفكروا: إن كان الطعام في معنى الذبيحة فما معنى قوله “وذبيحتكم حل لهم”؟ وأهل الكتاب يأكلون من المطاعم ما يأكلون ولا يهمهم إذا كان القرآن أحله لهم أم لا؟
قالوا: فما معنى الطعام في الآية إذن؟
قلت: هو المعنى الذي أراده القرآن في الآيات المذكورة قاطبة، وهو المطعوم من الحيوان وغيره،
قالوا: فما تفسير الآية؟
قلت: انظروا: هل هناك مكان آخر استعمل الله الطعام في سياق أهل الكتاب؟
قالوا: نعم، ” كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين” (٩٣ آل عمران)،
قلت: فما معنى هذه الآية؟
قالوا: اشرحه لنا،
قلت: معناها: كل الأطعمة الطيِّبة كانت حلالا لأبناء يعقوب عليه السلام إلا ما حرَّم يعقوب على نفسه لمرض نزل به، وذلك مِن قبل أن تُنَزَّل التوراة. فلما نُزِّلت التوراة حرَّم الله على بني إسرائيل بعض الأطعمة التي كانت حلالا لهم؛ وذلك لظلمهم وبغيهم، واقرأوا تصديق ذلك في قوله تعالى “وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ” (سورة الأنعام 146).
قلت: فقد حرم على أهل الكتاب بعض الأطعمة. والآن انظروا في القرآن هل فيه ذكر لإحلال ما حرم على اليهود من الأطعمة؟ يقول تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة الأعراف 157).
فدلت الآية أن من علامات النبي الأمي الذي ينتظرونه أنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويستلزم إحلال الطيبات تلك الطيبات التي حرمت على اليهود ببغيهم ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فكانت اليهود ينتظرون هذا النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة.
فأعلن الله في سورة المائدة، وهي سورة إتمام النعمة وإكمال الدين والإيفاء بالعهود، أن النبي الذي كنتم تنتظرونه قد جاءكم، فقال تعالى: “اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم”، فقوله “أحل لكم الطيبات”، تحقيق بشارة “ويحل لهم الطيبات”، وقوله “وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم” تحقيق بشارة “ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم”، فلما قال: “وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم” خرجت منه الخبائث، لأنها كانت محرمة على أهل الكتاب، ولكن من ضمن ما حرم عليهم بعض الطيبات، فقال: “وطعامكم حل لهم”، أي وطعامكم مما أحل لكم من الطيبات، وقد كان بعضه محرما على أهل الكتاب، قد أحل لهم الآن.
قلت: فهذه الآية تصديق بشارة نبينا صلى الله عليه وسلم لدى أهل الكتاب، والآن يرون المسلمين يحلون الطيبات، وبحرمون الخبائث، ويأكلون تلك الطيبات التي كانت حلالا لهم، ثم حرمت عليهم ببغيهم، وأعيد تحليل تلك الطيبات ببركة مجيئ هذا النبي.
قالوا: قد تبين لنا معنى الآية، فهل أنت تحرم ذبائح أهل الكتاب؟
قلت: لا، وإنما أردت بيان معنى الآية، فإنها ليست في الذبائح.
وإذا أردتم أن تعرفوا كيف استنبط النبي صلى الله عليه وسلم حل ذبائح الكتاب، فاسمعوا، نصت آية المائدة الثالثة على تحريم الميتة، وهي التي لم تذبح، وعلى تحريم ما أهل لغير الله به، فعرف أن البهائم الطيبة يزاد لإحلالها شرط آخر، وهو أن يذبح ولا يهل به لغير الله، فعلَّم أصحابه ذبح الحيوان باسم الله تعالى.
ولما ذكر الله تعالى أن طعام أهل الكتاب حلال لهم عرف أن الحلال من الحيوان لابد أن يذبح باسم الله قبل أن يؤكل، فطعام أهل الكتاب وأهل الإسلام كله طيب، ولا يؤكل الحيوان منه إلا بعد الذبح وتسمية الله تعالى، وإن أردتم مزيد بيان، فاقرأوا قوله متصلا به “والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب”، فالمحصنات من أهل الكتاب حلال لنا كما أن المحصنات من المسلمين حلال لنا، ولكن يشترط النكاح لمحصنات أهل الكتاب، كما يشترط النكاح لمحصنات المسلمين، وكذلك يشترط لطعام الحيوان الذبح باسم الله تعالى.
قالوا: فلم لم يضع شرط الذبح والتسمية في الآية؟
قلت: لا حاجة لأنه قد سبق بيانه قبل آيتين.
قالوا: قد تبين لنا الآن معنى الآية وارتفع عنا كل إشكال، وعلمنا عظم موقعها وأنها جاءت تصديقا لما في التوراة من بشارته، وأنها ليست في بيان حكم ذبائح أهل الكتاب، وأن ترجمة الطعام إلى الذبيحة سلبت الآية عظمتها وجلالها ودلالتها على نبوة خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
قالوا: فالشكر لك على ما أفدتنا،
قلت: احمدوا ربكم الذي هدانا وعلمنا، ولو لم يهدنا ولم يعلمنا لكنا ضالين جاهلين، وادعوه أن يحبب إليكم تدبر معاني كتابه مستغنين به عن غيره، واتباع أحكامه، فهو القول العدل، والأمر الفصل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل العزيز الحميد.
رفع إشكال
قالوا: قد أثار ناس تساؤلات وإشكالات حول ما نشرت من تفسير “وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم”،
قلت: أو لا تعلمون أني من أبعد الناس عن الجدل العقيم، والمنازعات التي لا يقصد من ورائها إلا التغلب والنيل من عباد الله واغتيابهم، وإني لأمقت الخصام والمماراة مقتا شديدا مشمئزا عن قهر الناس والانتصار عليهم اشمئزازا، وصارفا نفسي عن اللغو وإضاعة الأوقات، وأحمد ربي الذي ألقى في روعي حب كتابه أتدبره تدبرا، وأتبع هداه اتباعا ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
قالوا: يلح هؤلاء على أن الطعام في الآية المذكورة معناه الذبيحة،
قلت: دعهم يصروا على الغلط لاجِّين لجًّا، فمن الأنام من يبحث عن الإعجاز العددي في القرآن، ومنهم من ينقب فيه عن الإعجاز العلمي، ومنهم من جعل كتاب الله تعالى متنا فقهيا يتناول الجزئيات والأمور الفرعية وفق المذاهب والآراء البشرية، فهبطوا بكتاب الله تعالى إلى مستواهم الدني، جاعليه كتاب علوم طبيعية وفتاوى وأشياء تجريبية اجتهادية، يدركها البشر بعقولهم، وينتبهون إليها بحواسهم العادية، دون تدبر أو إعمال نظر وفكر، وأنى لهم أن يبذلوا وسعهم في وعي الهدى السماوي متوصلين إلى المعاني الرفيعة التي أودعه الله إياها، وهل تتوقعون من قائسي النظائر على النظائر والمترددين إلى المخابر إدراك سمو الكتاب الإلهي؟
قالوا: لا تشدِّد على السائلين كل هذا التشديد، فلعل فيهم من يرغب في تفهم كلامك مخلصا لله ناصحا لك، ثم إنك تزعم أنك معلِّم، أفلا يجب على المعلِّمين أن يرفقوا بالمستفسرين والسائلين؟
قلت: بلى، وإني شاكر لكم أن استلفتم نظري إلى الرفق وذكّرتموني اللين، ولا شك أن الرفق من الفضائل البشرية التي لا ينالها إلى من أوتي من ربه حظا عظيما.
قالوا: فاذكر لنا ممن أخذت منه قولك هذا في تفسير الآية،
قلت: استفدته من بعض شيوخي،
قالوا: لِم لم تعزُه إليه؟
قلت: لأني زدت عليه أشياء، فلم أحب أن أتقول عليه ما لم يقل،
قالوا: وهل ذهب إليه غير شيخك؟
قلت: نعم جماعة،
قالوا: سمهم لنا،
قلت: إذن تطول القائمة، ولكن اعلموا أنهم كلهم عالة في تفسيره على رأس المفسرين في عصرنا الإمام حميد الدين الفراهي رحمه الله تعالى،
قالوا: ماذا قال؟
قلت: قال: “وطعامكم حل لهم” لبيان النسخ لما حرم الله عليهم لبغيهم (سورة 6، الآية 146)، لكيلا يزعموا أن حرمة التوراة تبقى عليهم بعد الإسلام” (تعليقات 1/147).
قالوا: وهل سبق الفراهي أحد إلى مثل هذا التفسير؟
قلت: لا بد، فهو التفسير الصحيح، ولم تنقل إلينا التفاسير كلها، ولم يتفق لي البحث عن جميع تفاسير السلف والخلف،
قالوا: لو سميت لنا واحدا سبق عصرنا ممن ذهب ذلك المذهب لكان ردا على بعض من اتهمك بالابتداع.
قلت: ذهب إليه العلامة المفسر جمال الدين الصفدي (ت 696 هـ) في تفسيره للآية في كتابه (كشف الأسرار وهتك الأستار)، يقول: “فقوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم: أي كما هو حل لهم، ويريد ما هم الآن يستعملونه لا ما هم الآن يحرمونه مما أحله الله لنا. وقوله وطعامكم حل لهم: يريد به جميع طعامنا إعلاما لنا أنه من حين جاء النبي العربي صلى الله عليه وسلم الذي يحل لهم الطيبات وجب اتباعه فقد عاد طعامنا حلا لهم كله، لكنهم أبوا فحرموا ما أحله لهم، ولهذا قال: وطعامكم حل لهم، ولم يقل: كان حلا لهم، أو حلٌّ عندهم، أي فيما يعتقدون، بل هو الآن حل، فمن حين جاءهم الرسول وأبوا أبقاهم الله على ما حرموه مما أحله لهم عقابا لهم، وهو معنى قوله: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم …”.
قالوا: فما لك لا تفسر الطعام بالذبائح كما فعل غيرك؟
قلت: لا حاجة إلى ذكر الذبيحة، فهو أمر معلوم، فالله أحل نساء أهل الكتاب، ولا يشك أحد أن ذلك بعد النكاح، ولا حاجة إلى وضع هذا الشرط في الكتاب لأنه معلوم،
قالوا: وكيف علم شرط الذبح؟
قلت: قد فصلت ذلك في مقالي السابق إذ حرم الله تعالى الميتة، وهي غير الذبائح.
قالوا: فما لأهل التفسير جمعوا أقوال كثير من السلف حول ذبائح أهل الكتاب في تفسير الآية؟
قلت: من عادة المفسرين أن يجمعوا الأقوال المختلفة لأدنى مناسبة، فكل ما روي عن السلف فيما يتعلق بطعام أهل الكتاب جمعوه تحت الآية،
قالوا: أصبت، ولكن قد روي عن مجاهد وغيره أنهم فسروا الطعام بالذبائح،
قلت: أرادوا بذلك دفع سوء فهم بعض البسطاء من الناس ممن يظن أنه إذا كان الله قد أحل طعام أهل الكتاب، فما كان من طعامهم من الحيوان مما يأكلونه حلال لنا ذبحوه أم لم يذبحوه، لأن الله تعالى أحله مطلقا، فكشف مجاهد وغيره أن الذبح شرط في طعامهم من الحيوان كما هو شرط في طعام المسلمين، وذلك لعموم قوله تعالى “حرمت عليكم الميتة”، ويجب على أهل العلم دفع مثل هذا السوء في الفهم، وهو ما أخرجه الشيخان عن محمد بن المنكدر، قال: صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب، قال له قائل: تصلي في إزار واحد؟، فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: وهل يجوز أن يكون بعض السلف قد غلط في تفسير الآية؟
قلت: يجوز، فالسلف غير معصومين، ولا عصمة إلا للأنبياء عليهم السلام، ولكن الغلط في السلف أقل بالنسبة إلى من بعدهم، وقد اختلف السلف بعضهم عن بعضهم، كما اختلف من بعدهم عنهم، وأمثلة هذا الاختلاف كثيرة مستفيضة.
قالوا: فما توصينا به؟
قلت: لا تضيعوا أوقاتي بعرض شبهات الذين لا يتدبرون في كتاب الله تعالى، ولا يهمهم إلا التشغيب.
قالوا: إنهم يطعنون فيك.
قلت: دعهم يطعنوا، فما يزيدني ذلك إلا تقربا إلى ربي إذا تأدبنا بالأدب الذي علَّمه إيانا، وهو أن نقول سلاما وأن نمر باللغو كراما.