بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
جاء في آخر مقالي “لماذا نحب ابن تيمية”؟: وقال العلامة شبلي النعماني: “إن التأليف عن حياة الإمام ابن تيمية لفريضة أولى، سقط الغزالي والرازي من عيني بعد أن اطلعت على هذا الرجل”.
فعلق على ذلك شيخنا الجليل مجد بن أحمد مكي: “في كلام العلامة شبلي النعماني غلو ظاهر وتعسف وعصبية لابن تيمية رحمه الله تعالى وهو رد فعل لغلو المتعصبين على ابن تيمية، والإنصاف عزيز”.
وعلق عليه شيخنا الكريم أحمد عاشور: “إن كان العلامة شبلي النعماني بلفظ: سقط فلان وفلان من عيني، أو أراد أن منزلتهما العليا في نفسه انخفضت بالنسبة إلى حلول من ذكره في نفسه درجة أعلى منها فصارت المنزلة العليا في نفسه له دونهما فيكون سقوطهما بالنسبة إليها وبهذا المعنى لا بما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من سقوطهما الملغي لرفعتهما بالكلية!”.
فعلق الشيخ مجد على كلام الشيخ أحمد بقوله: “من حقق علوم النظر قطع بأن ابن تيمية لا يلحق مثل الغزالي ولا يكاد، نعم هو أرفع منه في علوم الأثر فلو قيد النعماني كلامه بذلك لأنصف”.
فرأيت أنه من ظلم شبلي أن يحكم الناس عليه بناءًا على كلمة منه مقتضبة، وما أحسن ما قاله العلامة حميد الدين الفراهي في كتابه “فاتحة تفسير نظام القرآن”: ” … وربما نقلوا الأقوال من غير استيعاب الدلائل، فهذا ظلم على قائله، وظلمة على من يسمعه” ص 39، ومن ثم استحسنت أن أعرض تطور فكرة العلامة شبلي النعماني عن الإمام ابن تيمية رحمهما الله، وتأثيره في العلامة السيد سليمان الندوي ومفكر الإسلام أبي الحسن علي الحسن الندوي رحمهما الله تعالى، فلا نقترف جريمة ظلم شبلي النعماني.
موقف شبلي من ابن تيمية:
كان شبلي أصوليا متكلمًا، مدافعًا عن مذهب أهل السنة والجماعة، مترددا بين الأشاعرة والماتريدية، مع ميل إلى مذهب المحدثين وإشادة بجهود الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الرد على الأشاعرة، وقام مع تنويهه ببعض آراء الأشاعرة، بانتقادهم في تفلسفهم الغالي، وإضاعتهم جهودهم في المسائل التي لاتهم الإسلام، وإثارة كثير من الشكوك والشبهات التي قادتهم إليها عقليتهم المصطنعة، يقول: “يشتمل جزء كبير من كلام الأشاعرة على الرد على الفلسفة الإغريقية، لا شك أن روح علم الكلام هو الرد على قضايا الفلسفة التي تعارض الإسلام، لكن المتكلمين ارتكبوا أخطاء شنيعة، فكثير من القضايا التي كانوا يرونها من الفلسفة اليونانية لاتمت إليها بصلة، بينما كانت كثير من آراء فلاسفة اليونان لاتعارض الإسلام في الغالب” (علم الكلام 90).
كان علماء الحنفية في القديم متبعين لمذهب أبي منصور الماتريدي، حتى إن ابن الأثير كتب في حوادث سنة ست وستين وأربع مائة: “وهذا مما يستظرف أن يكون حنفي أشعريا”، ومال العلماء المتأخرون من الحنفية إلى مذهب الأشاعرة، وذلك بتأثير الإمامين الغزالي والرازي، ولكن شبلي لم يرض بهذا المنهج التقليدي، فرد على الأشاعرة أخطاءهم، وقبل من الماتريدية ما وافق الصواب من آرائهم.
وأشاد في كتاباته بفضل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ونوه بانتقاداته للفلاسفة والمتكلمين، يقول شبلي: “اضطلع ابن تيمية من علم الكلام، ونظر في الطرق الكلامية نظرة بحث وتحقيق، درس كلام الأشاعرة فوجد فيها مسائل لم ينتقدها أحد مع أنها كانت تستحق النقد، فقام ابن تيمية بكل حرية واستقلال بإبطال هذه المسائل” (علم الكلام 102).
كان شبلي معجبًا بالإمام الغزالي أيما إعجاب، ويبدو أنه صار له ميل في آخر حياته إلى مذهب المحدثين، وذلك بفضل ما اطلع عليه من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فأغرم به، وظهر له فضله على غيره، وكانت هذه خطوة جريئة منه في جو الهند المعادي للإمام ابن تيمية أشد المعاداة، ونوى أن يؤلف كتابا حافلا عن حياته، ولكن المنية أعجلته، يقول في إحدى رسائله: “إن التأليف عن حياة الإمام ابن تيمية لفريضة أولى، سقط الغزالي والرازي من عيني بعد أن اطلعت على هذا الرجل” (مكاتيب شبلي 2: 115).
يقول تلميذه السيد سليمان الندوي: “كان إعجابه بالغزالي ثم الرازي أكبر لما ألف كتابه (الكلام)، ولما طبعت كتب العلامة ابن تيمية واطلع عليها غلب عليه لون ابن تيمية، وكانت بداية ذلك (الرد على المنطقيين) … وكان يقول لي في آخر حياته: أرضى بأن أتبع ابن تيمية في كل أمر” (حياة شبلي ص 829-830).
كتب شبلي مقالا في مجلة “الندوة” سنة 1908م تحت عنوان “العلامة ابن تيمية الحراني كمجدد لقرنه، ذكر فيه ثلاث صفات أساسية لمجدد:
1- أن يحدث انقلابا هادفًا في مجال الدين أو التعليم أو السياسة.
2- وأن تكون آراؤه الإصلاحية نتيجة للاجتهاد لا التقليد.
3- وأن يكون قد احتمل مصائب جسدية في سبيل نشر أفكاره، وقدم لها تضحيات من نفسه وروحه.
ووجد شبلي هذه الصفات مجتمعة في ابن تيمية، ورآه يفوق كثيرًا من عباقرة تاريخ الإسلام (انظر: مقالات شبلي 5/26-67).
تأثير شبلي في السيد سليمان الندوي:
وكان من تأثير ذلك أن العلامة السيد سليمان الندوي نشأ على محبة لهذا الإمام العبقري شيخ الإسلام ابن تيمية، ويؤكد أنه لما اضطلع من دراسة كتب ابن تيمية وابن القيم زال عن قلبه كل أثر من آثار غيرهما، وامحى كل لون من الألوان (انظر: الكتب التي لها منة على العلماء الأعلام ص 18) ، وأخذ منهما كثيرًا من آرائهما في كتابه “سيرة النبي” وغيره من المؤلفات، وقدّم لكتاب “الرد على المنطقيين”. يبدأ مقدمته بقوله: “هذا كتاب لم ينسج على منواله، ولم يسبق له نظير، فهو نقد ما قاله وأصّله وأسسه أرسطو حكيم اليونانيين”.
ويقول السيد الندوي: “وإذا أنعمت النظر في هذا الكتاب تجد مسائل منطقية وفلسفية، ابن تيمية أبو عذرتها، وهي تطابق كل المطابقة بما قال فلاسفة الأفرنج في هذا العصر في بعض مسائل المنطق والفلسفة”.
ويقول: “فمما يجب عليّ في هذه الوجيزة الإلماع به هو ما قال المصنف في حقيقة الحد والجنس والفصل واللزوم وحقيقة العلة والقياس والاستقراء، والاستدلال بالمشهورات، والاكتفاء بمقدمة واحدة في القياس، وغيره من المباحث العويصة التي حل المصنف مشكلها ببيان واضح ودليل راهن، وما قال في العلة واللزوم هو عين ما قاله هيوم الفلسفي في كتبه، ومسئلة اللزوم والعلية من المسائل العويصة التي ضلت في واديها الأفهام ونبعت من عيونها ضلالات الطبائعيين من أهل الإلحاد، وكم لهذا النابغة من نوادر لم يسبقه إليها أحد رضي الله عنه”.
ويقول السيد الندوي: “أدين في اهتمامي بعلم الكلام لتربية العلامة شبلي، فقرأت مؤلفاته، وراجعت مصادرها، وطالعت “الملل والنحل” للشهرستاني، و”الفصل في الملل والنحل” لابن حزم، و”كشف الأدلة لابن رشد” و”حجة الله البالغة” للشاه ولي الله، وأثر كل منها في نفسي، وأخيرًا درست مؤلفات العلامة ابن تيمية والحافظ ابن القيم، فاندرس كل رسم، وامحى كل أثر” (الكتب التي لها منة على العلماء الأعلام ص 18).
الإمام أبو الحسن علي الندوي واهتمامه بابن تيمية:
وورث شيخنا الإمام أبو الحسن علي الندوي هذا التقدير لشيخ الإسلام ابن تيمية، والاعتراف بدوره في الإصلاح والتجديد، وأفرد الجزء الثاني من كتابه الذائع الصيت رجال الفكر والدعوة لدراسة آثاره وأعماله، ألفه باللغة الأردية، ثم نُقل الكتاب إلى العربية، لخص فيه مآثره التجديدية في النواحي الأربعة: 1- تجديد عقيدة التوحيد، وإبطال العقائد والتقاليد المشركة، 2- ونقد الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، 2- وترجيح منهج الكتاب والسنة وأسلوبهما على كل منهج وأسلوب، 3- والرد على الفرق والملل غير الإسلامية، ومقاومة عقائدها وتقاليدها وتأثيرها، 4- وتجديد العلوم الشرعية وبعث الفكر الإسلامي.
يقول الشيخ الندوي في مقدمته للكتاب وهو يعدد جوانب حياة شيخ الإسلام ابن تيمية التجديدية: ” … ويكون مع ذلك من فرسان العمل والكفاح، ويجمع بين القلم والسيف، جريئا على الملوك في الصدع بالحق، لا يُحجم عن قيادة الجيش الإسلامي أمام أضرى عدو مثل الوحوش التتار، ويعرفه كل من حلق الدرس، وزوايا المكتبات، وخلوات المساجد، ومجالس المناظرة، ومعتقلات السجون، وساحات الحرب كفارس عظيم ورجل ذي شكيمة، مبجلا في كل عين، ومعترفا بإمامته في كل طبقة”.
“كان القرن الثامن بحاجة إلى مثل هذا الرجل الكامل الذي يسع نشاطه كل مجال من مجالات الحياة، من غير أن تنزوي جهوده وأعماله في زاوية واحدة، أو تتركز على جانب واحد، كان ذلك الرجل هو شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية الذي ملأ العالم الإسلامي بنشاط وحياة بحركات علمية ودينية لا تزال آثارها خالدة باقية على مر القرون والأجيال” (مقدمة الجزء الثاني لرجال الفكر والدعوة ).