بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
تحفة الْفُقَهَاء للشَّيْخ الامام أبي منصور عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي أَحْمد السَّمرقَنْدِي، المتوفى سنة 539هـ رَحمَه الله تَعَالَى، الفقيه الحنفي المعروف، قال العلامة عبد الحي اللكنوي: “شيخ فاضل جليل القدر، وكانت ابنته فاطمة السمرقندية أيضا عالمة فقيهة” ونسبته إلى سمرقند وهي المدينة العريقة المشهورة عاصمة بلاد ما وراء النهر بعد بخارى”. وأشهر وأكبر تلاميذ الإمام السمرقندي هو الإمام أبو بكر الكاساني المتوفى سنة 587هـ الذي شرح كتاب شيخه (تحفة الفقهاء)، وسماه (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)، وهو من أكبر مراجع الفقه الحنفي المعتمدة. وكان الكاساني يذكر شيخه في تصانيفه واصفا إياه بقوله:… أستاذي الشيخ الأجل الزاهد علاء الدين رئيس أهل السنة محمد بن أحمد السمرقندي رضي الله عنه.
وهذا الكتاب متن في الفقه الحنفى أكثر تفصيلا ووضوحا من مختصر القدوري، فهو متوسط بين مزيد البسط ومزيد الاختصار، وهو مشتمل على أسس الأدلة لأحكام المذهب الحنفي دون إسهاب في مناقشاتها، قَالَ مؤلفه في مقدمته: اعْلَم أَن “الْمُخْتَصر” الْمَنْسُوب إِلَى الشَّيْخ أبي الْحُسَيْن الْقَدُورِيّ رَحمَه الله جَامع جملا من الْفِقْه مستعملة، بِحَيْثُ لَا ترَاهَا مدى الدَّهْر مُهْملَة: يهدي بهَا الرائض فِي أَكثر الْحَوَادِث والنوازل، ويرتقي بهَا المرتاض إِلَى أَعلَى المراقي والمنازل، وَلما عَمت رَغْبَة الْفُقَهَاء إِلَى هَذَا الْكتاب، طلب مني بَعضهم، من الإخوان والأصحاب، أَن أذكر فِيهِ بعض مَا ترك المُصَنّف من أَقسَام الْمسَائِل، وأوضح المشكلات مِنْهُ، بِقَوي من الدَّلَائِل، ليَكُون ذَرِيعَة إِلَى تَضْعِيف الْفَائِدَة، بالتقسيم وَالتَّفْصِيل، ووسيلة، بِذكر الدَّلِيل، إِلَى تَخْرِيج ذَوي التَّحْصِيل – فأسرعت فِي الاسعاف والاجابة، رَجَاء التَّوْفِيق، من الله تَعَالَى، فِي الاتمام والاصابة، وَطَمَعًا، من فَضله، فِي الْعَفو والغفران والانابة: فَهُوَ الْمُوفق للصَّوَاب والسداد، وَالْهَادِي إِلَى سبل الرشاد وسميته “تحفة الْفُقَهَاء”، إِذْ هِيَ هديتي لَهُم، لحق الصُّحْبَة والاخاء، عِنْد رجوعهم إِلَى مَوَاطِن الْآبَاء”.
عنيت جامعة دمشق بتدريس كتاب (تحفة الفقهاء) في مختلف المراحل الدراسية، وأخرجت أول طبعة له بتحقيق الأستاذ القاضي محمد زكي عبد البر في ثلاثة مجلدات، قام فيه بالمقابلة والتصحيح على عدد من النسخ المخطوطة وشيء من التدقيق والتوضيح، ولكنه فاته تخريج أحاديثه، فطلب المحقق نفسه وكذلك العلامة الفقيه مصطفى الزرقاء، والعلامة مصطفى السباعي من شيخنا الإمام السيد محمد المنتصر بالله الكتاني رحمه الله تعالى أن يقوم بهذا العمل الطويل الشاق، فقام به خير قيام، وأعانه على ذلك شيخنا وهبة الزحيلي رحمه الله تعالى، وقد طبع الكتاب أخيرا في أربعة مجلدات بعناية وتصدير الدكتور حمزة الكتاني في دار الكتب العلمية ببيروت عام 1438هـ/2017م.
ومما يشرفني أنني سعدت بإجازة من شيخنا محمد المنتصر الكتاني رحمه الله تعالى قبيل وفاته في قصة طريفة ذكرتها في ترجمتي له في كتابي (معجم الشيوخ)، وكذلك قدّر الله لي التلمذة على الشيخ وهبة الزحيلي رحمه الله، إذ سمعت عليه (الأربعين النووية) كاملا، وشيئا من (الرسالة) للإمام الشافعي، وأجاز لي إجازة عامة. والمعتني بهذه الطبعة هو أخونا في الدين والعلم الدكتور حمزة بن علي بن المنتصر الكتاني، صاحب الأيادي البيضاء على كاتب هذه السطور، معروف بالعلم والفضل، وإن عالم البحث والتحقيق مدين له بما قام من خدمة تراث البيت الكتاني خدمة علمية أكاديمية، فجزاه الله تعالى خيرا.
التصدير
من مزايا هذه الطبعة: تصدير علمي بقلم المعتني بها الدكتور حمزة، ويحتوي عدة نقاط هامة:
مصادر التشريع الإسلامي:
ذكر أولا المصدرين الأصيلين القرآن والسنة واصفا لهما ومبينا لمكانتهما، وأتبعه بذكر رجوع الأئمة المجتهدين إلى إعمال أدوات أخرى في فهم المصدرين على الوجه المراد، من أقوال الصحابة، وعمل أهل المدينة، واختيارات آل البيت، ثم إلى الاستنباط منهما بالبحث عن المدلولات اللغوية، والطرق القياسية، إلى أن قال: “وهذه الوسائل تختلف من مدرسة فقهية لأخرى، غير أن الطابع العام الذي يميز الفقيه الممارس لفقهه، والمعترك للمتغيرات والوقائع الوقتية، هو التوسع في استعمال هذه الأدوات من أجل تطبيق وسائل التشريع عليها”. (1/8).
وما أروع ملاحظته: “ولكن من جهة أخرى فإن الإغراق في استعمال تلك الوسائل مع عدم ملاحظة النصوص الأصلية يجعل الفقيه أبعد عن مصادر التشريع، وأقرب لمفهوم الرأي والظنة والقناعة النفسية”. (1/8-9).
ثم تخلص إلى كلام معتدل ينبغي أن يكون نصب أعين الفقهاء في كل زمان ومكان، قال: “ولكن مما لا شك فيه أن المنهج السليم هو الاستفادة من وسائل الاستنباط، والتنظير والتشبيه، وربط الوقائع بعللها، والنصوص بتعليلاتها، ولكن مع عدم ترك اعتبار النصوص الواضحة الدلالة، ذات الأحكام المحكمة التي لا تقبل التأويل أو التغيير، أو التساهل في ردها، أو إهمالها بالجملة، فتمام الفقه هو بالجمع بين هذه الوسائل كلها في الاستنباط والبحث والفتيا”. (1/9).
إكراهات التطور الحضاري المعاصر:
بدأ هذه النقطة بقوله: “ومما لا شك فيه أن زماننا هذا الذي تطورت فيه الحضارة بحاجياتها، بطريقة نوعية، وبتقدم مثير جعل الماضي شبه منفصل عن الحاضر لمن لم يتدرج معها، تنقسم فيه حاجيات الأمة إلى جانبين متضادين:
الأول: الحاجة الماسة للرجوع إلى مصدري التشريع الأساسيين، الكتاب والسنة، من أجل تمتين الارتباط بالوحي الإلهي، والهدي النبوي، وحل المشاكل الحادثة بمنهج شرعي.
الثاني: الاستفادة من تجارب فقهاء الإسلام عبر التاريخ، والبناء على ما أسسوا له من القواعد الفقهية والأصولية، وأساليب الاستنباط”. (1/9).
أثر مستجدات العصر في الحاجة إلى الاستدلال للمذاهب الأربعة:
بدأها بقوله: “ونظرا لكون بلاد الهند من بواكير الدول التي استقبلت الحضارة الجديدة بمختلف إشكالاتها، نظرا لدخول الاستعمار البريطاني إليها مبكرا، فإن البحث في مصادر التشريع، وتجديد الفقه الإسلامي، ابتدأ فيها من وقت سابق عن بقية الدول الإسلامية” (1/10).
ولعلي لم أر هذا الاعتراف بدور الهند الريادي في مجال تأهيل الفقه الإسلامي لمستجدات العصر، قبل الدكتور حمزة الكتاني، فجزاه الله تعالى عن الصدق وأهله خيرا.
وأخيرا قام بتعريف بكتاب تحفة الفقهاء ومؤلفه، وتحدث عن تخريج أحاديثه الذي امتازت به هذه الطبعة، يقول: “وكتاب “تحفة الفقهاء” بهذا التخريج طبع في الستينات من القرن الميلادي المنصرم، بدار الفكر في دمشق في أربعة مجلدات كبار، واعتمد في التدريس الجامعي، وتخرجت به أجيال من العلماء والمدرسين. ونظرا لندرة تلك الطبعة حتى أصبحت في عداد المخطوط، فقد آثرت إعادة طبعها، لتيسيرها للعلماء وطلبة العلم والباحثين، باعتبارها أفضل طبعات “تحفة الفقهاء” وأتقنها من حيث الصنعة الحديثية والفقهية”. (1/22).
مقدمة الأستاذ السيد محمد المنتصر الكتاني
وتتلو التصدير مقدمة شيخنا السيد محمد المنتصر الكتاني رحمه الله تعالى، وهي مقدمة مسهبة مفصلة تتضمن أمورا هامة، يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله: “وقد قدم الأستاذ الكتاني حفظه الله تعالى وأدام نفعه عن هذا العمل الجليل مقدمة ضافية، سيجد فيها القارئ ما يغني عن الإشادة به، كما أوضح بها ما وقع عليه من حقائق هامة حول مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه، وفقهه وحديثه وطريقته العلمية في الاستنباط والاجتهاد، مما يراه القارئ في المقدمة المشار إليها”. (1/د).
تناول فيها مصادر الفقه وتاريخ تدوينه بالدراسة، وهو مبحث مهم جدا، يقول فيه إشادة بفضل أبي حنيفة رحمه الله: “قد كان أبو حنيفة في تخطيطه لمذهبه، وفي تأصيله القواعد لفقهه، أقرب الأربعة – نظريا – أصولا ومذهبا: للحديث، وفقه الصحابة، وأبعدهم – نظريا – عن القياس، والاستهلاك فيه”. (1/28).
وقد قام الشيخ الكتاني رحمه الله تعالى بالرد القوي على ابن خلدون ومن أشاع عن أبي حنيفة أنه لا علم له بالحديث، أو لا يعلم منه إلا بضعة أحاديث، تعدها الأصابع، منها استنبط فقهه، وعليها أقام مذهبه، يقول:
“وقد سجل قالة السوء هذه، ودون هذا الافتراء، ابن خلدون في مقدمته، إذ قال: فأبو حنيفة يقال: بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا، أو نحوها. وهذا تزييف للواقع، ومجانفة للحقائق، والإشادة بذلك ليست أول دسيسة، يدسها ابن خلدون – على إمامته في علم الاجتماع، وعلمه الواسع في التاريخ – مقنعة بأقنعة الغيرة على العلم، ومغلفة بمسوح إخلاص الرهبان على الدين” (1/30-31)
ويقول: “وابن خلدون بما تخلل مقدمته من دسائس، كان الممهد لمستشرقي الغرب، ثم لمستغربي الشرق، في طعنهم في الفقه الإسلامي، وزعمهم أن فقه النبوة، وفقه الصحابة، كان فقها بدائيا بدويا، وزعمهم أن الفقه الإسلامي، ما اتسع وتحضر، إلا في الدولة العباسية، الفارسية الإدارة والحضارة، وأن الذي تولى توسعته وتحضيره، الفارسي أبو حنيفة، وصحبه، ومدرسته، واستمدوا ذلك عن الفرس والرومان وغيرهم، ممن دخل منهم في الإسلام مخلصا، أو منافقا، ودليلهم على ذلك، جهل أبي حنيفة بالحديث – في دعواهم التي مهد لهم بها ابن خلدون – واعتماد أبي حنيفة على القياس وحده، نتيجة جهله بالحديث”. (1/33-34).
ثم تحدث الشيخ عن قصة تخريجه لأحاديث تحفة الفقهاء قائلا: “وبعد، فقد أخرجت مطبعة جامعة دمشق كتاب السمرقندي: تحفة الفقهاء لأول مرة، منذ خمس سنوات، في ثلاث مجلدات، على يد ناشر طيه، ومحقق نصه، وباحث قضاياه، ومنقذه من عوادي الحشرات: العثة والأرضة: الأخ الكريم الدكتور محمد زكي عبد البر أثابه الله، ثم قام بتدريسه في كلية الشريعة، قبل أن يعود إلى عمله في القضاء للقاهرة، وكان في عمله الطويل للكتاب، يعتبر خدمته له عبادة يتقرب بها إلى الله، ولا شك أن نشر العلم، وهداية الناس للخير، عبادة لله، وقربى إليه، تقبل الله منا ومنه.
وقلت له مرة وهو في منزلي يتحفني بمجلد التحفة الثاني: ستبقى خدمتك للكتاب ناقصة، ما لم تعمل على تخريج أحاديثه، وبعد أيام عاد لزيارتي وهو يرغب إلي القيام بتخريج أحاديث التحفة، فأجبت: فات الأوان والمجلد الثالث والأخير على وشك الصدور.
ومضت أربع سنوات، وإذا برغبة الأخ الدكتور عبد البر، تعززها رغبتان لأخوين لي كريمين علي، هما: الأستاذ مصطفى الزرقا، رئيس قسم القانون المدني والشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة دمشق، والدكتور مصطفى السباعي، رئيس قسم الفقه الإسلامي بكلية الشريعة بجامعة دمشق، فاستجبت مغتبطا”. (1/35-36)
ومن المستغرب الذي فيه درس كبير لعلماء عصرنا ومحققيه وباحثيه أن الشيخين المخرجين أنهيا عملهما في مدة ثلاثة أشهر، يقول الشيخ الكتاني في مقدمته: “وكان الوقت للتخريج لا يحتمل أن يمتد أكثر من ثلاثة أشهر” (1/36).
ويقول: ” …واصلنا العمل فيه الليل بالنهار، فكم من ليلة صلينا فيها الصبح بوضوء العشاء، وكم من يوم لم نرفع فيه القلم عن الدواة والطرس، والعين عن البحث والدرس، وفي آصال أيام الأسبوع، وفي الأيام الثلاثة الأخيرة منه، نتفرغ فيها عادة للكتابة والبحث، كنا نعتكف في مكتبة المنزل بين الأوراق والكتب، وكم من حديث احتجنا لتحقيق نصه، وتخريج روايته ليالي وأياما، إلى أن امتن الله علينا فأتممنا تحقيق جميع أحاديث تحفة الفقهاء، وتخريج جميع متونها ورواياتها، في المدة المطلوبة: ثلاثة أشهر، فصار الكتاب بذلك كتاب حديث وفقه في آن معا، وقد تم في أربعة أجزاء، ونرجو أن يكون أمنية المتمني، ورغبة الراغب”. (1/37).
ورجعا في تحقيق الأحاديث وتخريجها إلى خمسة وستين ومائة كتاب، واعتمدا في ذلك أئمة الحديث عند الحنفية قبل غيرهم، من المحدثين المجتهدين، أو محدثي المذاهب.
يقول الشيخ الكتاني: “وجميع متون أحاديث الكتاب الستمائة ونيف، المجردة عن الرواة والأسانيد: صالحة في الكثير منها، ومحتج بها عند المحدثين والفقهاء، فهي أحاديث متواترة، أو صحيحة، أو حسنة” . ص 39.
وقال: “والضعيف: اثنان وتسعون حديثا، فيها المنقطع، والمقطوع، والمعضل، وفيها الراوي المجرح، أو الرواة المجروحون، وفيها المتصل الشاذ، والذي فيه نكارة، وكلها قد نص عليها المحدثون على أنها ضعيفة، أو شديدة الضعف، أو واهية.
والملفق خمسة عشر حديثا، أوردها السمرقندي على أن كل حديث منها حديث واحد، وهو حديثان، أو ثلاثة، أو أربعة، فمنها الملفق من صحيحين، أو صحاح، ومنها الملفق من صحيحين ومتواتر، ومنها الملفق من الصحيح والضعيف: حديثين أو أكثر، وبعض هذا الضعيف: مزيد فيه، وبعضه محرف.
والمحرف: أربعة وثلاثون حديثا، أوردها المؤلف، وقد زاد فيها أو نقص، ما غير به لفظ الحديث أو معناه، أو هما معا، وخلط فيها ضعيفا بصحيح، وحديثا بقول صحابي.
والمقلوب: وقد اختلط بالمحرف، هو حديث ثابت نفاه، ومنفي أثبته، وموقوف صحابي صيره حديثا نبويا، وموقوف صحابي بعينه نسبه لغيره.
والموضوع ثمانية أحاديث، رواها وضاعون، ونص على وضعها الحفاظ، احتج بالأول منها في ثلاثة مواضع.
ومفقود السند: حديث لم يجد له الحفاظ سندا، ولا مخرجا، يطلقون عليه حديثا باطلا، أو لا أصل له، وفي الكتاب منه ما يناهز عشرين حديثا. (1/40-41).
وقد قاما كذلك بشرح للغامض من مفردات هذه الأحاديث، وللغريب من جملها، مع ذكر مذاهب أئمة الفقه في حكم وأحكام.
نماذج من التخريج والتحقيق
ترجيح حديث يستدل به الحنفية:
قالا في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في التشهد: “حديث صحيح، بل وأصح حديث ورد في التشهد، اتفق أئمة الحديث على صحته، ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من نيف وعشرين طريقا”. (1/225).
مثال حديث موقوف جعله صاحب الكتاب مرفوعا:
قال السمرقندي: “وهكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في تسوية الصفوف: “ألصقوا الكعاب بالكعاب والمناكب بالمناكب”. (1/11)
قال المخرجان: “هذا الحديث بهذا اللفظ لا يوجد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجد ما يؤدي معناه من وصف أربعة من الصحابة للتسوية النبوية لصفوف المصلين، ويوجد بعض معناه في النطق النبوي الكريم، عن ثلاثة من الصحابة، وفي حديث مرسل، وفي حديث موقوف.
ورد ذلك عن ثمانية من الصحابة: النعمان بن بشير، وأنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عمر، وأبي أمامة، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم.
وأرسله زيد بن أسلم رحمه الله.
وروي موقوفا على عثمان بن عفان رضي الله عنه.”
ثم خرجا تلك الآثار.
مثال آخر:
قال السمرقندي 1/192-193: “… على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أربع من الجفاء، وذكر من جملتها “ومن سمع الأذان والإقامة ولم يجب”.
قالا: حديث موقوف، ثم هو منقطع، وليس هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما زعم المؤلف، بل هو من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه”.
ثم بينا ذلك.
مثال حديث مركب:
قال السمرقندي 1/188-189: “والصحيح قولنا لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يمنعنكم أذان بلال من السحور، فإنه يؤذن بليل ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم، ويتسحر صائمكم، فعليكم بأذان ابن أم مكتوم”.
قالا: “هذا الحديث مركب من حديثين، فرواية ابن مسعود اقتصرت على ذكر أذان بلال، وذكر بلال وابن أم مكتوم معا، وأذانهما، رواه رواة آخرون، غير ابن مسعود، هم: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، وسلمان الفارسي، وزيد بن ثابت، وأنيسة بنت خبيب الأنصارية، سبعة من الصحابة رضي الله عنهم”.
ثم قاما بتخريجها.
مثال حديث ملفق:
قال السمرقندي: “… في الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال لتلك المرأة: “حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ولا يضرك أثره”. (1/126)
قالا: “هذا الحديث ملفق من أربعة أحاديث، وعدة روايات، وليست سواء، فحديثان صحيحان، والآخران ضعيفان، والمرأة التي قال لها ذلك صلى الله عليه وسلم، ليست واحدة، بل أربع نساء، هن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأم قيس بنت محصن، وخولة بنت يسار، وخولة بنت حكيم، رضي الله عنهن، وصح حديث أسماء، وحديث أم قيس، ولم يصح حديث بنت يسار، ولا حديث بنت حكيم”.
ثم قاما بتخريجها وتحقيقها جميعا.
مثال آخر:
قال السمرقندي: “وأصله قوله عليه السلام: كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فهو ذكاة”. (4/82)
قالا: “هذا ملفق من حديثين، الحديث الأول مروي عن اثنين من الصحابة هما رافع بن خديج وعدي بن حاتم، والحديث الثاني مروي عن ثلاثة من الصحابة هم رافع بن خديج وحذيفة بن اليمان وأبو أمامة الباهلي رضي الله عنهم”.
ثم خرجاهما.
حديث ليس له أصل ثابت:
قال السمرقندي: “وأصله ما روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا: “لا تجوز الهبة إلا مقبوضة محوزة” (4/224).
قالا: “ليس لهذا الحديث أصل ثابت بهذا اللفظ، قال الزيلعي في نصب الراية: “غريب، ورواه عبد الرزاق في مصنفه من قول النخعي، قال: ولا تجوز الهبة حتى تقبض، والصدقة تجوز قبل أن تقبض”.
ثم أفاضا في تخريجه.
مثال آخر:
قال السمرقندي: “وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يحل لرجلين يؤمنان بالله واليوم الآخر أن يجتمعا على امرأة في طهر واحد”. (3/176)
قالا: “لم نعثر على أصل لهذا الحديث بهذا اللفظ، ويظهر أنه لا وجود له، وإنما ورد ما يؤيده تقريبا في المعنى أو الحكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بطريق عكرمة، وعن عمر بطريق التابعيين سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار رحمهما الله تعالى”.
ثم خرجاها.
مثال حديث واه:
قال السمرقندي 1/222: “والصحيح مذهبنا لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهض في الصلاة على صدور قدمبه”.
قالا: “حديث ضعيف واه، في سنده جريحان: ضعيف غير ضابط، ومتهم بالوضع هالك”.
ثم بينا ذلك.
مثال آخر:
ذكر السمرقندي حديث: أدوا عن كل حر وعبد، صغير وكبير، نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير. (2/678).
قالا: “حديث ضعيف السند، ضعيف المتن، مضطرب سندا، مضطرب متنا، وفي رواته اختلاف عريض، وفي متنه ألفاظ متضاربة ضاع معها معنى الحديث.”
ثم بينا ذلك.
مثال حديث موضوع:
قال السمرقندي 1/148: “وأصل ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كسر زنداي يوم أحد، فسقط اللواء من يدي، فقال صلى الله عليه وسلم: “اجعلوها في يساره، فإنه صاحب لواي في الدنيا والآخرة”، فقلت: يا رسول الله ما أصنع بالجبائر؟ فقال: امسح عليها”.
قالا: “هذا حديث موضوع، ولم يرد بهذا اللفظ، وضعه عمرو بن خالد أبو خالد الواسطي، وافتراه على الأئمة من آل البيت: عن زيد بن علي، عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب، عليهم السلام، قال: انكسرت ..”.
ثم استندا إلى أقوال أئمة الجرح والتعديل في بيان وضعه.
تصحيح تصحيف:
قالا (1/86): “في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمي، صحفت نخامة، بجنابة” في قول عمار مجيبا السؤال النبوي “أغسل ثوبي من نخامة أصابته.
وهذا من تصرف جهلة الناشرين والطابعين، حين لا يفهمون النصوص، يتلاعبون مبدلين لها ومغيرين فيها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”.
تحقيق فقهي وحديثي:
وقاما بتحقيق فقهي وحديثي لمسألة رفع اليدين، قالا: فالثابت المنقول دراية ورواية عن العشرة وغير العشرة من الصحابة، ومنهم ابن عباس، قولا وفعلا، خلاف ذلك (أي خلاف ترك الرفع) ونقيضه، صح هذا بل وتواتر، في أمهات كتب الحديث، وغير الأمهات منها، صحاحا، وسننا، ومسانيد، ومصنفات، ومعاجم، وصرح به أئمة الفقه والحديث، ورجال الجرح والتعديل في القديم والحديث”. (1/213).
قال السمرقندي في ذكر استئناف الفريضة في زكاة الإبل: “إن الأحاديث قد تعارضت”. (2/584).
قالا: “لا، لم تتعارض الأحاديث، وحديث ضعيف هالك لا يعارض أحاديث صحاحا في غاية الصحة”.
ثم بينا ذلك.
التنويه بهذا العمل
لاشك أن عامة كتب الفقه في المذاهب الأربعة وغيرها تعاني من عيب كبير ونقص يقلل من قيمته، وهو استنادها إلى الأحاديث والآثار من دون تمييز بين مرفوعها وموقوفها، وثابتها وباطلها، وصحيحها وسقيمها، فهي – قبل أن يعتمدها العلماء والطلاب – في أشد حاجة إلى المتخصصين في الحديث ممن يقوم بخدمتها تخريجا وتوثيقا وتحقيقا، وسيرى الناظر في هذه الطبعة مدى الجهد الذي بذله الشيخان في خدمة الكتاب بأن يسَّرا لأهل العلم الاستفادة منه، وذلك خلال وقت قصير جدا، يقول العلامة الفقيه مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى في مقدمته للكتاب: “…فقاما بهذا العمل العلمي الهام خير قيام في أضيق وقت وأحرجه” (1/د)
ويقول حمزة الكتاني في تصديره: “…فيظهر من هذا أن عمل الشيخين ليس قاصرا على تخريج المتون الحديثية، بل هو بمثابة حاشية على الكتاب أيضًا، وشرح لطيف لمهماته، ولعباراته ومصطلحاته”.
ويقول الشيخ مصطفى الزرقا: “وبعد هذا نستطيع القول بأن الله سبحانه وتعالى قد كافأ العلامة السمرقندي على إخلاصه في مؤلفه، وعلى أدبه العالي مع من سبقوه من كبار فقهاء المذهب، كالعلامة القدوري الذي أشار إليه صاحب التحفة في خطبة كتابه، بما أتاح لتحفته هذه من أيد قامت على خدمتها علميا، وإظهار مزاياها بعد ما بقيت قرونا لا تعرف بشخصيتها المستقلة، وإنما تعرف من غضون كلام تلميذه الكاساني في “بدائعه” عنها”. (1/د-ه).
وأرى أن يقتني الحنفية وسائر من يعنى بدراسة الفقه من الجامعيين والأكاديميين هذه الطبعة المتميزة، ففيها غنية لهم عن غيرها لما تحويه مما سبق ذكره من تحقيق علمي جاد للكتاب وتخريج مسهب مفصل موثق لأحاديث الكتاب وآثاره.
وفي الختام أوجه الشكر إلى أخينا الدكتور حمزة الكتاني على عنايته بالكتاب، داعيا له بمزيد من التوفيق في خدمة كتب الحديث والفقه واستخراج الكنوز الكامنة من بيوت الكتانيين، وسائلا المولى عز وجل أن يتقبل عمله، وينعم علينا بالانتفاع به، ويرزقنا العمل والتقوى والإخلاص. آمين.