النقد والطعن

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: ما معنى النقد؟

قلت: النقد لغة: تفحص الشيء وتمييز الجيد من الرديء، واصطلاحا: إبراز وجوه الجمال والكمال والنفع، والكشف عن مواطن القبح والنقص والضر، أو دراسة عمل علمي وفني محللا إياه وموازنا بينه وبين غيره متوصلا إلى تقدير قيمته، أو هو عدم قبول القول والرأي إلا بعد التمحيص والبحث والتحقيق.

قالوا: وما معنى الطعن؟

قلت: هو إصابة غيره جرحًا وكلمًا، وقد يكون الطعن في جسد الشخص، أو في عقله وفكره، وقلبه ومشاعره، وعلمه وأدبه، وإنتاجه العلمي والفني، وليس وراءه تحرٍّ وتنقيب، أو تحليل وتقييم.

قالوا: ما الفرق بينهما؟

قلت: الفرق واضح من التعريف نفسه، وخلاصته أن النقد علم والطعن جهل، والنقد نور والطعن ظلمات، والنقد وفاء وعدل وإنصاف، والطعن جحود وبخس وعدوان.

قالوا: فما حكمهما؟

قلت: النقد واجب ديني وأمانة علمية، قال الله تعالى: “يا أيها اللذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”، والطعن محرم وقبيح، قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم”، وقال: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون”.

قالوا: هل يتجانسان متضارعين متشاكلين؟

قلت: لا، بل يختلفان غرضا ونية وعملا،

قالوا: أبِن لنا هذا الاختلاف،

قلت: الغرض من النقد هو تقدير شخص وتقييم رأيه وإنتاجه، والغرض من الطعن هو القدح والاغتياب والتعيير والانتقاص، ونية الناقد هو الإصلاح والتهذيب في نصح وسداد، ونية الطاعن هو الإفساد والعيب في غش وخداع، وعملية النقد تتبع منهجا علميا واضحا معروفا لدى ذوي العلم والفن والأدب والصناعة، والطعن جهل وتجهيل، ومراوغة وتزوير، وافتراء وكذب. في سير أعلام النبلاء:عن عباس بن محمد، عن ابن معين قال: حضرنا نعيم بن حماد بمصر، فجعل يقرأ كتابا من تصنيفه، فقرأ ساعة، ثم قال: حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون بأحاديث، فقلت: ليس ذا عن ابن المبارك، فغضب، وقال: ترد علي؟ قلت: إي والله، أرد عليك، أريد زينك، فأبى أن يرجع، فقلت: لا والله ما سمعت أنت هذا من ابن المبارك قط، ولا هو من ابن عون، فغضب، وغضب من كان عنده من أصحاب الحديث، وقام، فأخرج صحائف، فجعل يقول: أين الذين يزعمون أن يحيى بن معين ليس أمير المؤمنين في الحديث؟ نعم يا أبا زكريا غلطتُ، وكانت صحائف فغلطت، فجعلت أكتب من حديث ابن المبارك، عن ابن عون، وإنما رواها عن ابن عون غير ابن المبارك”.

قالوا: هل يدخل النقد في حكم الطعن؟

قلت: نعم إذا لم يستحضر الناقد غرضه ونيته ولم يتقيد بمنهجه ملتزما إياه التزاما.

قالوا: أين يقع جرح المحدثين للرجال؟

قلت: هو نقد، يهدفون به إلى تمييز الصحيح من السقيم في الأخبار والآثار،

قالوا: فلِم سمَّوا علمهم هذا النبيل “الجرح”؟ ولِم يتحدثون عن الطعن ووجوهه؟

قلت: قصدهم هو تنزيه السنن من الوضع والغش والانتحال والتدليس سابرين أحوال الرواة والنقلة وصفاتهم، فأصل هذا العلم هو النقد تعديلا وجرحا، والاسم الكامل لعلمهم هو الجرح والتعديل، وهو النقد والتمييز.

قالوا: هل صدر من بعض المحدثين طعن؟

قلت: لا، إلا نزرا يسيرا في غير تعمد، كالخطأ يقع فيه الرجل والزلة تحدث منه، والله يغفر لهم ويعفو عنهم، وقد تسرب إلى صفوف أهل الحديث من تعمَّد الطعن، فدخل في حد الغيبة والإثم، وهم في ذلك مثل غيرهم من المغتابين والآثمين، لا منجى لهم إلا أن يتوبوا إلى الله تعالى ويحللوا ذممهم مبرئين إياها.

قالوا: ما للعلماء وطلبة العلم والدعاة والمصلحين في عصرنا يتطاعنون مغتابين خراصين وأفاكين؟

قلت: هذه غائلة واقعة ورزيئة فاجعة، وقد يتخذون لذلك الطعن وسائل يبثون بها الزور والباطل منمَّقَين ومزيَّفَين في العالم من أقصاه إلى أقصاه.

قالوا: ما المطلوب من الطاعنين والمطعونين؟

قلت: المطلوب من الطاعنين تقوى الله تعالى، وأن يتوبوا إليه توبة نصوحا، وأن يتقربوا إلى المطعونين معتذرين إليهم نادمين، والمطلوب من المطعونين الصبر لله عز وجل، وترك الضغائن وعدم الانتقام بشغب أو لسان تيحان.

قالوا: يقع فيك أناس بين فينة وأخرى، فأين أنت منهم؟

قلت: يؤلمني ذلك إيلاما يشتد مرة ويخف أخرى، ثم أتذكر أمر ربي جل وعلا بالصبر، فأكره نفسي عليه رادعا إياها من الانتقام، وناهيا غيري من أصحابي من التصدي لهم ردا أو إنكارا.

قالوا: ما الذي يسر لك الصبر تيسيرا؟

قلت:

​1- ما في الصبر من ثواب عظيم، ومن معية الله تعالى، إذ قال: “إن الله مع الصابرين”، وما أبلغه من ثواب! وما همّي إذا كان الله معي؟.

​2- ونعمة الله علي إذ شغلني بالعلم والأدب، وشغل الطاعنين بالمكروه والمستقذر.

​3- وأن ذلك يكسر الكبر والرعونة في نفسي، فإذا أثنى الناس على رجل أعجب بنفسه، ثم تكبر وطغى ومشى في ثياب مخيلة، وفي ذلك من الهلاك ما فيه. أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة”. وقال الحسن البصري: لو كان كلام بني آدم كله صدقاً، وعمله كله حسناً، يوشك أن يخسر ! قيل: وكيف يخسر؟ قال: يعجب بنفسه.

​4- وأن حسنات الطاعنين تحول إلي، وأن ذنوبي تحمل عليهم، أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتدرون ما المفلس؟” قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: “إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار”.

قالوا: إذا كانت حسنات الطاعنين تحول إليك فهل تحرص على أن يكثروا من الطعن فيك فتزداد حسنات؟

قلت: لا،

قالوا: لماذا؟ قلت: لأن الطعن غيبة ومعصية، وحرام على العباد أن يحبوا أن يعصى الله، وفي حلية الأولياء في ترجمة الإمام عبد الرحمن بن مهدي، قال: لولا أني أكره أن يعصي الله لتمنيت أن لا يبقى في هذا المصر أحد إلا وقع في واغتابني، وأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة يعملها ولم يعلم بها.

قالوا: بماذا توصينا؟

قلت: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، وأن لا نحمل ضب ضغن، وأن نتجنب الطعن والجرح والغيبة، نافيةً أسماعُنا الفواحش، وسليمةً دواعي صدورنا، وأن نلزم أنفسنا التبصر والانتقاد في العلم والنظر، فلا نقبل إلا الصحيح المميَّز، ولا يحملنا الشره على التقاط الرديء والخبيث، وفي سير أعلام النبلاء في ترجمة الأعمش قال: جلست إلى إياس بن معاوية بواسط فذكر حديثا. فقلت: من ذكر هذا؟ فضرب لي مثل رجل من الخوارج. فقلت: أتضرب لي هذا المثل، تريد أن أكنس الطريق بثوبي، فلا أمر ببعرة ولا خنفس إلا حملتها؟