بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: هل يرجع المنهاج التعليمي “النظامي” أو ما يسمى بـ”الدرس النظامي” السائد في مدارس شبه القارة الهندية إلى نظامية بغداد أو نظامية نيسابور؟
قلت: ما أجهل من زعم ذلك وما أغباه! ، فأول ما ظهر هذا الاسم في الهند في نهاية القرن الثاني عشر الهجري / القرن الثامن عشر الميلادي أو بعده، ولو كانت نسبته إلى ما زعم هذا الزاعم لبرز أول ما أنشئت سلطنة دهلي في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي، ثم إن الكتب المقررة في هذا المنهاج لم يؤلف شيء منها إبان المدارس النظامية في بغداد ونيسابور وغيرها من مراكز التعليم الإسلامي التي أنشأها الوزير العاقل الصالح نظام الملك الطوسي رحمه الله تعالى، بل إن معظمها من عمل علماء الهند في القرون المتأخرة شروحا وحواشي وتعليقات، وما نسبة هذا المنهاج إلى نظامية بغداد أو نظامية نيسابور إلا كنسبة كتب الداعية محمد الغزالي المصري رحمه الله إلى الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله، أو نسبة كتاب (التفسير والمفسرون) لمحمد حسين الذهبي إلى الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله.
قالوا: فما مبدؤه؟
قلت: مبدؤه مدرسة فرنجي محل الواقعة في لكهنؤ التي أنشأها أولاد قطب الدين السهالوي رحمه الله تعالى، وعلى رأسهم الشيخ نظام الدين اللكهنوي رحمه الله تعالى، وهو الذي ينسب إليه هذا المنهاج التعليمي.
قالوا: ترجمه لنا.
قلت: هو الشيخ الإمام العالم الكبير العلامة الشهير صاحب العلوم والفنون الشيخ نظام الدين بن قطب الدين بن عبد الحليم الأنصاري السهالوي ثم اللكهنوي الذي تفرد بالعلوم والفنون وأخذ لواءها بيده، لم يكن له نظير في زمانه في الأصول والمنطق والكلام. ولد بسهالي وتوفي والده مقتولاً وهو في الرابع عشر أو الخامس عشر من سنه، فانتقل إلى لكهنؤ مع صنوه الكبير محمد سعيد فأعطى عالمكير بن شاهجهان سلطان الهند قصراً بذلك المقام لأبناء الشيخ الشهيد يعرف بفرنجي محل لأنه كان من أبنية تاجر أفرنجي، فلما اطمأن قلبه خرج من لكهنؤ وذهب إلى بلدة جائس وقرأ أكثر الكتب الدرسية على ملا علي قلي الجائسي، ثم ذهب إلى بلدة بنارس وتتلمذ على الحافظ أمان الله بن نور الله البنارسي وقرأ عليه شرح المواقف، ثم رجع إلى بلدة لكهنو وتتلمذ على الشيخ غلام نقشبند بن عطاء الله اللكهنوي وقرأ عليه الرسالة القوشجية في الهيئة، وقرأ فاتحة الفراغ وله خمس وعشرون سنة، ثم تصدى للدرس والإفادة فتكاثر عليه الطلبة وخضع له العلماء، وطارت مصنفاته في حياته إلى الأمصار والبلاد، وتلقى نظام درسه في مدارس العلماء بالقبول وانتهت إليه رئاسة التدريس في أكثر بلاد الهند. كان مع تبحره في العلوم وسعة نظره على أقاويل القدماء عارفاً كبيراً زاهداً مجاهداً شديد التعبد عميم الأخلاق حسن التواضع كثير المؤاساة بالناس، وكان لا يتقيد بتكبير العمامة وتطويل الأكمام والطيلسان، أخذ الطريقة القادرية عن الشيخ عبد الرزاق بن عبد الرحيم الحسيني البانسوي، بايعه وله أربعون سنة، ومن مصنفاته شرحان على مسلم الثبوت للقاضي محب الله الأطول والطويل، وشرح له على منار الأصول وشرح على تحرير الأصول لابن الهمام، وشرح على المبارزية، وحاشية على شرح هداية الحكمة للشيرازي، وحاشية على الشمس البازغة للجونبوري، وحاشية على شرح العضدية للدواني، وحاشية على الحاشية القديمة له، وله مناقب رزاقية كتاب بالفارسي في أخبار شيخه عبد الرزاق، وله تلامذة كثيرون،. توفي يوم الأربعاء لثمان خلون من جمادى الأولى سنة إحدى وستين ومائة وألف وقد جاوز سبعين سنة. (انظر: سبحة المرجان ص 94، أحوال علماء فرنكي محل 9-10، 77، وحدائق الحنفية ص 445، وأبجد العلوم ص 911، وتذكرة علماء الهند ص 525-526، ونزهة الخواطر، مادة النون في المجلد السادس، ومقالات شبلي 3/91-101، 114-116).
قالوا: ما مقرراته الدر اسية؟
قلت: هي ما يلي مرتبا:
النحو: نحو مير، شرح مائة عامل، الكافية لابن حاجب، شرح الملا عبد الرحمن الجامي على الكافية.
الصرف: الميزان والمنشعب، وصرف مير، وبنج كنج، وزبدة، وفصول أكبري، والشافية لابن حاجب.
المنطق: الصغرى، والكبرى، وإيساغوجي، والتهذيب، وشرح التهذيب، والقطبي، وسلم العلوم.
الفلسفة: الميبذي، وصدرا، والشمس البازغة.
الحساب: خلاصة الحساب، وتحرير الأقليدس، وتشريح الأفلاك، والرسالة القوشجية، وشرح جغمني.
البلاغة: مختصر المعاني، والمطول.
الفقه: مختصر القدوري، شرح الوقاية، الهداية.
أصول الفقه: نور الأنوار، والتوضيح والتلويح، ومسلم الثبوت.
الكلام: شرح العقائد النسفية، وشرح العقائد الجلالية، والميرزا زاهد، وشرح المواقف.
التفسير: تفسير الجلالين، وتفسير البيضاوي.
الحديث: مشكوة المصابيح.
قالوا: ما الغاية من هذا المنهاج؟
قلت: إن كل منهاج يفي بحاجة مجتمعه وعصره، وكذلك أنشئ هذا المنهاج لتوفير الموظفين وأصحاب المناصب الإدارية والقضائية للإمبراطورية المغولية في عهد زوالها، والإمارات الهندية الأخرى، وهو منهاج علماني.
قالوا: إن كان منهاجا علمانيا، فكيف يفى متخرجوه بحاجة مجتمعهم الدينية؟
قلت: كانوا يقصدون مراكز أخرى لكسب علوم الحديث وغيرها من العلوم الدينية، وقد كان بعضهم لفرط ذكائه أو بلوغ سعيه يقبل على مطالعة ما يهمه من العلوم الدينية فيطور في نفسه الملكة اللازمة لها.
قالوا: ما نقد العلماء له؟
قلت: كان هذا المنهاج له منافع ومصالح في مناخه وزمنه الذي أنشئ فيه، وقد أنتج علماء كبارا ومحققين عظاما، خاتمتهم العلامة عبد الحي الفرنجي محلي رحمه الله تعالى، وإنما توجه نقد العلماء له في القرن الماضي، إذ ألحت بعض المدارس تطبيقه من دون إعادة النظر فيه والتوفيق بينه وبين مناخها وزمنها، ومعظم هذا النقد يتلخص فيما يأتي:
الأول: تكاثر كتب النحو والصرف التى يغلبها لون الفلسفة، وكتب البلاغة التى لا تنشئ فى الطالب ذوقا للأدب ولا تنمي ملكة للبيان، يتخرج الطالب منه وهو أسير العجمة وجفاف الأسلوب، مستخدما في كلامه وكتابته الكلمات النابية القَرِفة المستكرهة التي تمجها الألسنة، وتتقزز منها الآذان، وتنفر منها القلوب شاردة مشمئزة.
الثاني تكاثف كتب المنطق والفلسفة والكلام الرتيبة الجافة التي تمتزج بها جدليات اليونان العقيمة، والتي تدرب الطلاب على المناظرة والجدال وأخلاق المخاصمين المُمارِين، والمُشاقِّين المُلاحِين.
الثالث: ينقصه الاعتناء بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والسيرة النبوية، والتاريخ العام، والتاريخ الإسلامي، وترى المتخرج من مدارسه لا يحسن شيئا من هذه المواضيع، وكأنه سُكيت إذا ما جدَّ جري الحلائب.
الرابع: تنافره من محيطه، ونبوه عن زمنه في غير تآلف ولا تصاف، فمدارس المنهاج النظامي متاحف أثرية منقطعة عن عصرها وعن مناخها، غير ماتة بواقعها بصلة ما، والمتخرجون منها غرباء في مجتمعهم يعافونه ويعافهم.
السابع: ينقصه تكوين ملكة البحث والتحقيق، فقلما ترى المتخرجين من مدارسه إلا مقلدين تقليدا أعمى لآراء شيوخهم وترجيحاتهم وميولهم وأذواقهم، بعيدين عن البحث والتحقيق كل البعد، بل إنهم من الكارهين لهما أشد الكراهية، ومن الخارجين عليهما شرودا وهياجا.
قالوا: ألا ترى أن المنهاج النظامي قد تم إصلاحه إذ أضيف إلى مدة الدراسة فيه عام بكامله باسم دورة الحديث؟
قلت: خطوة حسنة، لو أنها طبقت تطبيقا صحيحا، ولكن إقراء كتب الحديث فيه لم يحصل إلا مباراة ومنافسة لدروس العلامة الأثري المحدث نذير حسين المحدث الدهلوي رحمه الله الذي كان يطعن في الحنفية في دروسه، فأدخل علماء المذهب الحنفي كتب الحديث في منهاجهم ليردوا بها عليه وعلى أتباعه، ويدافعوا عن مذهبهم الفقهي، كما أنهم استعملوا هذه الكتب للرد على البريلوية وغيرها من أهل البدع، فكانت دراسة الحديث فيها للرد والإنكار، أي لغرض سلبي بحت.
والحق أن المنهاج النظامي لم يعتن بكتب الحديث الاعتناء اللائق بها، غير متفقه لمناهجها العلمية ولا متوصل إلى أغراضها ولا راغب في المقارنة بينها مقارنة فنية، ولم يدرس الأحاديث والسنن التي هي من أصول هذا الدين من الإيمان والفضائل والأخلاق، وإنما اعتاد التركيز على أحاديث الفروع والجزئيات الفقهية كأحاديث القراءة خلف الإمام، ورفع اليدين، والتأمين بالجهر وما إلى ذلك من الأحاديث التي لا تزيد إيمانا ولا تصلح عملا ولا تحسن خلقا.