بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
طال بي المقام في بلاد الغرب، ودرست ما فيه من فلسفة السلم والحرب، زائدا في من الارتياب والكرب، فاستشرت إخواني، وقلت: أحتاج علاج روحي قبل أبداني، فأرشدوني إلى الدوران في الأرض والمطاف، أو أن ألجأ إلى متربع أو مصطاف، أو أركن إلى من أخالُّ أو أصاف، فما آنست منهم رَشَدا، وتفرقت بي الهموم بِدَدا، فمددت يدي بالدعاء، وقلبت وجهي في السماء، واستغثت بربي عائذا إليه بالتجاء، فألهمني أن أحج بيت الله الحرام، وأجاوره الليالي ذوات العدد والأيام.
ودعت أهلي والإخوان والديار، وقطعت البراري والأجواء والبحار، ويممت أوفى البلاد طهرة، وأزكاها فطرة، وأحسنها تفصيلا وجملة، ودخلت أم القرى، المصر المؤسس على التقوى، ملبيا لله محرما، ولما تصرم بيني وبين ربي مبرما، وطفت بالبيت الأشواط، وقلبي برب البيت مناط، وصليت ركعتين خلف المقام، وسعيت بين الجبلين سعي المستهام، وأتممت العمرة لله، مستجيبا لأذان خليله الحليم الأواه.
واتصلت بأخينا العالم الصالح التوم، من خيرة عباد الحي القيوم، شيخ كريم ماجد نبيل، سمح معتدل رفيق أصيل، إليه نفوس الأشراف تميل، وحبي إياه حب غير قليل، نصحه لي دائم متين البنيان، وهو دليلي على المشايخ والإخوان، والخل الوفي الأمين الشجاع أول بغيتي فيما أرتاده من بقاع، فإن الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق.
وأرشدني في حجتي هذه إلى فتى من الفتيان، فخر الزمان والمكان، حسن الوجه باسم المحيا، طالب للحديث والمجد والعلا، من ذوي الأرومة والحسب، بينه وبين أهل العلم أوشج النسب، وهو بعذرة الشباب، في زي من الطهر وثياب، وإن شأنه لعجاب، عف اليدين، وملأ العينين، له الطرف الخفي، والقلب النقي، معتن بصحة البدن غير كسول، دؤوب نشيط يصول ويجول، متقلل من الطعام والشراب، لا يستسيغ منه إلا ما لذ وطاب، محتم من المواد السكرية والدهنية، ممارس للرياضة البدنية، يصبح ويمسي ماشيا، وفيما كُلِّف من الأعمال ساعيا، الارتكاضُ بابه، والجد والكد جلبابه، والفطنة مصباحه، والنباهة سلاحه، لا يسأم الطلب، ولا يمل الدأب، اسم تركي، نجار مكي، وشكل ملكي، يبهر الأتراك جمالُه، ويسبق الفضول كمالُه، أخو العرب العرباء، نديم الفصحاء والبلغاء، الظاهر جوده في الخلق وإحسانُه، والسائر منطقه وبيانُه، ما ألطفه في الخدمة والرعاية، وألبقه في المصافاة والحماية، فطوبى لمن رافقه، ويا سعد من وافقه، تركي منعوت بالفضل والباس، ومن ملك الفضل فليؤاس، فلن يذهب العرف بين الله والناس.
غشي بي مجالس العلم والمحافل، ومجامع الصلاح والجحافل، والأوساط والنوادي والقبائل، وطاف بي شبابا أوفياء، أيفاعا أصفياء، طالبين للحديث وسائر الغوالي، ساعين إلى المجد والمعالي، عرفوا الأمور وبواطنها، وألفوا العلوم ومواطنها، ونخبةً من الشيوخ الأبرار، نقلة الأخبار ورواة الأسفار، يطبعون الأسجاع بجواهر لفظهم، ويقرعون الأسماع بزواجر وعظهم، دلفت إليهم لأقتبس من فوائدهم، وألتقط بعض فرائدهم، وأعلق منهم بما يكون لي زينة بين الأنام، وذخرا لي عند ذي الجلال والإكرام.
وزار بي الأضرحة والآثار، والمساجد والديار، فلما نال منا الضعف والنصب، والإعياء والتعب، قال: هلم إلى البيت نصب غداء، أو إلى السوق نشتر شواء، والسوق أقرب، ومحضره أطيب، لذيذ المطعم، بارد المغنم، صافي المشرب، وافي المكسب، وأشرفنا على موائد كالهالات دورا، والروضات نورا، وقد شحن بأطعمة الولائم، وحمين من العائب واللائم، جلسنا وكأنا في بعض الجنان، وقدم إلينا حساء روبيان، وسمك السلمون، والنعناع في عصير الليمون، وكان الحساء لذيذا هنيا، وسمك السلمون مستطرفا طريا، وما معه من الصلتة مريا، واستزدنا من المآكل ما وجدناه شهيا، ومدحتُ نفاسة ذوق تركي وحيويته، وشكرته شكرا يبعث أريحيته، فأخذني إلى ديوانية رائقة، فيها أنواع من الشاي والقهوة شائقة، والديوانية خيمة من خيام الأعراب، مزودة بفرش ووسائد وحولها آل وسراب، وكأنها أحدوثة الزمان، محاكية لوصف سورة الرحمن، صنفا من صنفي الجنان.
وجال بي في سوق ذي المجاز، على الحقيقة لا المجاز، ووادي نعمان، الناطح غابر الزمان، تسكنه عشيرته وعشيرة أهله، وتعرفهم قنة جبله وسفح سهله، لهم فيه مبان وثيقة، ومغان أنيقة، فتذكرنا شعراء وقفوا بالديار وعرصاتها، واغتدوا والطير في وكناتها، ووصفوا الخيول بهيئاتها، والجمال والنوق بصفاتها، والأودية وبطونها، والجبال وحزونها، والبحار وعيونها، لم يقولوا الشعر كاسبين، ولم يجدوا القول راغبين، وما من فخر إلا ولهم فيه اليد الطولى، والقدح المعلى، أنديتهم منزهة، وقلوبهم مرفهة، أنجدوا وأتهموا، وأيمنوا وأشأموا، وأصحروا وأبحروا، وأدلجوا وأسحروا، لا يتخذون أوطانا، ولا يتقون سلطانا، وتخيلنا وضع العرب في قديم الأسواق، ومشينا على حافة نهر جار من العراق، ساقيا أهل مكة والآفاق، واستمتعت بما لدى تركي من شعر وحكاية، وتركي رجل العرب حفظا ورواية، رحب واديه، وعز ناديه.