بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
كَلِفتُ منذ الصغر أن أغشىى منتديات العِظات والعِبَر، أغدو إليها وأروح، وأكسب منها ما يرقِّق القلب ويُصفِّي الروح، فلما تقدمت في الطلب، وأخذت نصيبي من العلم والأدب، قررت الرحلة في سبيله والاغتراب، وأكرهت نفسي على مفارقة الأتراب، وبدأت إلى البلاد أرنُو، حتى استهوت قلبي اللَّكْنُو، فشخصتُ من جونفور، دار البهجة والحبور، وأنا على النزوح منها صبور، وودَّعت أبوي والأقربين، علي واجدين وبشطري مصابين، خرجت وقد نبا بي القرار، وللفتى حيث انتهى دار، وسار بي القطار، مجتازا البراري والقفار، أخوض الغمار، لأجني الثمار، حتى وصلت إلى عاصمة الولاية، ذات العمارات الشامخة والبناية، بلدة الثقافة والرعاية، ألفيتها كما تصفها الألسن، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والتحقت بدار العلوم لندوة العلماء، وشعرت وكأني رفعت من الثرى إلى الثريا، أو صعدت من الأرض إلى السماء، وحصَّلت من الكتب الأطمار، درستها على شيوخ فيها كبار، عالمين أحبار، وصالحين أبرار، كرام المحاتد والنِّجار، أصحاب خَبَر ورواية، ورجال فقه ودراية، امتازوا بآداب رائعة، وعلوم لهم مطاوِعة، يزدان بهم كل ناد ومكان، ويَعتز بهم العصور والأزمان، بناة صروح المَجْد، وذوو الفضل والجَدّ، فرسان اليراعة، وأرباب البراعة، غُذُّوا بلبان البيان، وسَحَبوا على سحبان ذيل النسيان، فاغتبطتُ بما أفادوا، وابتهجتُ بما جادوا، وروتْ صحبتُهم غلتي، وأزاحت عني غمتي.
ولما خبرتُ بها ما شان وزان، وبلوت الرفاق والإخوان، أنست بأصدقاء وأخلاء، منعوتين بالصدق والصفاء، لُقِّبوا بخيار الأحبة والصِّحاب، توثقت بيني وبينهم أسباب، والمودة بيننا راسية القواعد، وثابتة الوطائد، هم للعلوم شموس ونجوم، ضياؤها يخلد وأنوارها تدوم، عرفوا بوقار وحشمة، وذكاء وفطنة، ومؤازرة ومساعدة ووفاء، وإحسان وجود وسخاء، يُودعون مَعارفهم عوارفهم، ويُولون مُرافقهم مَرافقهم، كرام وإن انقضى قرون الكرام، وآل الأمور إلى اللئام، مرتضعين أفاويق الوِفاق، شاقِّين عصا الشقاق، متآخين من صَرم حبالَهم، مُلَيِّنين للقالين والحاسدين مَقالَهم، تراهم على نعم الله شاكرين، ونوائب الدهر صابرين، هيِّنين ليِّنين أيسارا، سُوَّاسًا مكارمَ وأفخارا، طاهري السرائر، نزيهي الضمائر، متحببين متوددين، وعن الخنا والضغائن مبتعدين، وللأحقاد والسخائم معادين، تَزِن أحلامهم الجبال، وتأبى نفوسهم المِراء والجدال، متصفِّحين عن الجهلة والسفهاء، مترفِّعين عن المستكبرين والخلعاء، وبقُوا على ذلك حتى فرَّقهم الدهر أجسادا، ورماهم مسافات شاسعة وبلادا، بَيد أن أرواحهم متآلفة، وقلوبهم غيرُ متخالفة، ممتزجة طبائعهم امتزاج الماء بالراح، ومتواطئة بواطنهم في غير جناح، أولئك إخواني بارك الله فيهم على كل حال، أعف اللسان والمقال، وأكرم الأيدي والفِعال.
وأفردتُ بالذكر من بينهم عبد الحي، إذا لقيتَه فكأنك لقيتَ حاتم بني طي، فتى سوّى الله خلقه، وكرّم خلقه، مُعَمٌّ مُخْوِل، مُدابِر مُقابِل، سَمْح الشِّيَم، محمود الخِيَم، صنائعه أبهج من الأزهار، ومحاسنه أبلج من الأنوار، وألفاظه أرق من نسيم الأسحار، عفُّ الشمائل وطيِّب الأخبار، سَما فوق صعب لا تُنال مراقبه، ولا تُرتاد أطرافه وجوانبه، أخذ من الجود والسخاء أوفر نصيب، وحُبِّب إليه كل بعيد وقريب، يؤاخي الناس ويبذل لهم مالا، ثابتًا على طوره لا يبدِّل لهم حالا، عبد الضيف ما دام نازلا، يوفِّر له الزاد ثاويا وراحلا، صدوق في الكلام، بريء من الملام، سليم دواعي الصدر لا ما نعا خيرا ولا قائلا هجرا، رفيقًا بالناس محتالا لزلتهم عذرا، يكف عن شتم اللئيم، ويتكرم عليهم تكرم الكريم، يتحلم عن قدرة، ولا يشوب فضائلَه كدرة، عقم النساء فما يلدن مثلَه، فمَهْ أيها المتمني أن يكون فتى عِدْلَه، خطبتُ منه الود، وبذلت له الوجد، وكيف أنساه وذكراه خالدة، وأنى أتنكر له ولا نعماه واحدة.
مجلسه كله غُرر، وأحاديثه جواهر ودُرر، كلما وافيتُه في ساحته، أو غشيتُه في حين راحته، وجدتُه حفَّت به أخلاط الزمر، حفوف الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، وأراد مرة أن ينصحنا نحن الأحبة، ويوقظنا من سباتنا ويحذِّرنا المغبَّة، فدعانا إلى مأدبة، وأحضر من أنواع الطعام ومذاق اللسان، ما حلا في الفم وفاق النعت والبيان، فتهافت عليها الأحبة والجماعة، وانقضوا عليها في غير لطف ولا وداعة، ثم استهوانا السَّمَر وقد وضَح نور القَمَر، وأمسى كل ينثر من فيه الدرر، وأقبلنا على الحديث نمخض زُبَده، ونطرح زَبَده، نتجاذبُ أطراف الأناشيد، ونتوارد طُرَف الأسانيد، ونُمتع الأسماع، بما راق وراع، وقد سرت النشوة فينا، وطار النوم عن مآقينا، فإن في مسارَّة الأحبة قوت نفس، ومغناطيس أنس.
فلما انتهينا من الطعام، وفرغنا من الحديث والكلام، قام عبد الحي خطيبا، وكان الموقف عجيبا، وقال: حدثني من لا أتهمه، قال: فارقني أبي صغيرا، فنشأت يتيما فقيرا، ترعاني أمي، وتكشف همِّي، وأصابنا الجوع والإقتار، وتعبنا من الإعواز والإعسار، مُكْدِيْن مُرْمِدِين، تَارِبِين مُزْهِدِين، وبَاد الناطق والصامت، ورثى لنا الغريب والشامت، فلما كبرتُ وحلبت أشطر الدهر، وامتحنته بالمراس والسَّبْر، وخَبَرْتُ الأيام، اتخذتُ التجارة ذريعة إلى كسب المال والاغتنام، وأوتيتُ السعة والغنى، أستمتع بخفض من العيش والرخا، وتأثلتُ واستوفرتُ، وأثريتُ واستكثرتُ، في عنقي زَوَر، وفي خدِّي صَعَر، متغطرس مُختال، ساحب من الصَّلَف الأذيال، مُبَاهِيًا الأشراف والكرام، ومُضطهدا الضعفاء والأيامى والأيتام، والمرء آفته الدنيا، ويَطْغى كلما استغنى، إذ مررتُ في إحدى الرحلات بدار الأموات، وكِفات العظام والرُّفات، ورأيت جمعًا يحفرون قبرا، وآخرين يبكون ويُلَقَّنون صَبرا، فلما فرغوا من الدفْن، وقد غَلبهم الشَّجْن، سألوا شيخا لهم أن يذكِّرهم تذكيرا، ويعظهم وينذرهم منكرا ونكيرا، فقام والناس حوله مجتمعون، وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، وكُفُّوا مدامعكم والعيون، أيها الصارخون المولولون! وشمِّروا أيها المُقصِّرون! واعتبروا أيها المتبَصِّرون!، كل نفس ذائقة الموت، إذ تخمد الأرواح ويخفت كل صوت، الحياة أنفاس معدودة، وسوانح محدودة، أنتم في دار قليل بقاؤها، وشيك فناؤها، اعرفوا عواقب الدنيا، فاتركوا الهوى لما يُخشى، ليحزنْكم دفن الأتراب، وليُفزعكم هيلُ التراب، رُبَّ قبر قد صار لحدا إلى ألحاد، ضاحك من تزاحم أضداد، وكم من دفين على بقايا دفين، في طويل الأزمان والسنين، وارتْ قبورهم أكفا شدادا، وضَمَّت ضَرائحهم أنسابا وأمجادا، واذكروا إذا بعثر ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، يا بني آدم أفيقوا من سباتكم، واصحوا من سَكَراتكم، فلا الحلالَ تُوافُون، ولا الحرام تَعَافون، لا بالبلغة من العيش تقتنعون، ولا من الحرص والشره تمتنعون، ولا للعظات تستمعون، ولا بالوعيد ترتدعون، تتقلبون مع الأهواء، وتخبطون خبط عشواء، متردِّين في الجهالة، متهافتين في الضلالة، لاجِّين في الغلواء، سادرين في العمياء، راكبين الشبهات، متقحِّمين الغوايات، مرتطمين في الورطات، هَاوِين في الهَلَكات، أتظنون أن ستتركون سدى، وأن لا تحاسبوا غدا، بنيتم هذه الدار مُعِدِّين لها، فماذا عملتم لداركم الأخرى، وكل امرئ يوما سيركب المراكب، أعناق الأعداء والأقارب، الأجداث يريد، أنتم تنقصون وهي تزيد، تُمدّونها كل يوم إمدادا، ولا يرتد إليكم أحد منها ارتدادا، أرى الأرض تبقى، وسُكانها تفنى، فطوبى لمن سمع ووعى، ونهى النفس عن الهوى، وأيقن أن النجاة لمن ارعوى، وأن ليس للإنسان ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، فيجزاه الجزاء الأوفى.
فصدع بوعظ شفى الصدور، وألانَ الصخور، ووجدناه فوق ما يتواصف المتواصفون، وقد بذَّ ابنَ الجوزي وابنَ سمعون، فأدرَّ الجمع العبرات، وتبادروا إلى التوبات، مادِّين أيديهم بالدعاء، مقلِّبين وجوههم في السماء، قال الراوي: فرجعت إلى بيتي، وقلبي فزع، ولوني منتقع، وأنا خائف مذعور، ومن ظلم الناس وسائر المنكرات نفور، في أمور الموت والقبر ناظر، وليوم يقوم الناس فيه لرب العالمين ذاكر.
ولما انتهى عبد الوحي من التذكير، وكل منا بمآله بصير، دَمِعت أجفانُنا، وقُهرت أشجانُنا، أبصرنا فأقصرنا، منيبين إلى ربنا توابين، مخبتين إليه أوابين.