المقارنة بين العلماء

Reading Time: 4 minutes

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: ما ترى فيمن يقارن بين العلماء، فيفضِّل هذا على ذاك، وذاك على هذا؟

قلت: المقارنة بين العلماء كالمقارنة بين الأنبياء عليهم السلام، وقد نهانا الله تعالى عن التفريق بين رسله إلا ما نص عليه من فضل بعضهم على بعض، ولا تتمخض الموازنة بين العلماء والباحثين إلا عن إحداث تعصب في أوساط الناس أو تحيز أوتحزب، قد يؤدي إلى إثارة الشحناء والبغضاء بين أتباعهم ومحبيهم بل والتحارب والتقاتل فيما بينهم، وهل يرتاب مرتاب في أن أخف مضارها إضاعة أوقات عامة الناس، وإن شرا أقل شأنه إهدار الزمان لشر فادح.

قالوا: وهل يمكننا إدراك فضل العلماء بعضهم على بعض؟

قلت: الأمر يحتاج إلى تفصيل، فمن الفضل ما لا يمكن إدراكه، ومنه ما يمكن إدراكه.

قالوا: ما الذي لا يمكن إدراكه من الفضل؟

قلت: لا سبيل لنا إلى معرفة الفضل الحقيقي الذي يختلفون به في الدرجات عند رب العالمين، لأن هذا التفضيل مبني على إخلاص النيات وصالح الأعمال، والإخلاص لا يعلمه إلا الله تعالى، وكذلك صالح الأعمال لا نطلع إلا على القليل منها، فعامة العلماء يخفون أعمالهم الصالحة، وقد روي عن الزبير بن العوام وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم مرفوعًا: “من استطاع منكم أن يكون له خبئ من عمل صالح فليفعل”، وجاء في الأثر أن عليّ بن الحسين رحمه الله كانت له خبيئة من العمل الصالح لم يعلم بها أحد إلا بعد وفاته، كان يتصدق ويعيل مائة بيت من بيوت الأرامل والأيتام والفقراء سرًا بالليل، فلما توفي انقطعت المؤنة عن مائة بيت كان يأتيهم رزقهم بالليل من مجهول، فعلموا أنه هو الذي كان يحمله إليهم وينفق عليهم.

قالوا: وما الذي يمكن معرفته من فضلهم؟

قلت: هو الفضل الظاهري الدنيوي من الإنتاجات العلمية، ومناهج التدريس، وحصافة الآراء ومتانة أدلتها.

قالوا: وهل ثمة حاجة إلى مقارنة بين العلماء قائمة على النوع الثاني من التفضيل؟

قلت: نعم، قد تنشأ الحاجة إلى مثل هذه المقارنة، فمثلا نقول: أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى صحيحا الإمامين البخاري ومسلم، أو نقول: إن كتاب سيبويه أبدع كتاب في النحو، أو نقول: إن تهذيب الكمال أنفع كتاب في رجال كتب الأصول، أو إن فتح الباري أغزر شروح البخاري فوائد علمية وصناعية، أو إن أجود كتب السيرة النبوية كتاب العلامة شبلي النعماني والعلامة السيد سليمان الندوي، أو إن أجل ما ألف في القرن الماضي حول إعادة ثقة المسلمين بدينهم كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” وغيره من مؤلفات شيخنا أبي الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى، أو إن أفضل من عرف في الزمن الأخير بتقدمه في معرفة خفايا صحيح البخاري وأسراره هو شيخنا العلامة محمد يونس الجونفور رحمه الله تعالى، وقد يقع في مثل هذا التفضيل اختلاف بين ذوي البحث والتحقيق، فنحتاج حينئذ إلى تقريره بالأدلة والشواهد.

قالوا: ما ترى فيمن يرجح عالما على آخر بناء على بعض الألقاب

قلت: إن ترجيح عالم على آخر بأنه لُقِّب بشيخ الإسلام، أو بأنه عُدَّ مجددا لقرنه، أو بأنه دعي إمام الأئمة، أو سمي الإمام الأعظم، فهو ترجيح طائفي حزبي وعصبي، وليس بترجيح علمي أكاديمي، لأن هذه الألقاب ليست من عند الله ولا رسوله، ولا تنبني على استقراء أو استنتاج علمي، وإنما هي من مبالغات الناس ومغالاتهم، أو من قبيل التعظيم أو التمجيد والتفخيم، لدوافع وأغراض شتى ليس هذا موضع شرحها.

قالوا: فما لك ملحا في تفضيل ابن تيمية على عامة العلماء؟

قلت: لا أفضله على غيره التفضيل الحقيقي الذي لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وإنما أفضله نظرا إلى معطياته وإنجازاته، إذ ظهر فضله على كثير من العلماء من ناحيتين:

الأولى: منهج تقرير الأدلة، فإنه دائما يقرر أدلة القرآن والسنة في عامة المسائل العلمية والفقهية والكلامية تقريرا لا يوجد له نظير، وإذا أردنا أن نتبين ذلك فشاهد الوجود خير دليل عليه، خذوا مسألة علمية ناقشها ابن تيمية وناقشها غيره من العلماء، فقارنوا بين المناقشتين تجدوا ابن تيمية أقوى من غيره في تقرير أدلته وتحريرها.

الثانية: بعض مؤلفاته، فمثلا كتبه “مقدمة في أصول التفسير”، و”الرد على المنطقيين” و”درء التعارض بين العقل والنقل” و”الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” و”منهاج السنة النبوية” وكتاباته عن ربوبية الله تعالى وألوهيته، وعن النبوة والمعجزات على الذروة العليا من البحث والتحقيق والعرض، ولا تزال أفضل كتب وكتابات في موضوعاتها إلى يومنا هذا.

قالوا: ما خلاصة كلامك؟

قلت: غرضي من هذا المقال هو أن نعرف لكل ذي فضل فضله ونستفيد منه، ولا نبخس الناس حقوقهم، و لا ندعي عنهم بما لا علم لنا به، وأسأل الله تعالى أن يجنبنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ويجعلنا من الصالحين عبادا لله إخوانا.