بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: هل رميتَ الشيخ الكبير محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله تعالى بالجنون والعته والخبال؟
قلت: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين
قالوا: فقد أشيعت هذه التهمة عنك إشاعة
قلت: لعلها من قذف بعض الجاهلين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، فتولَّوا عنهم معرضين
قالوا: بل بثَّها بعض العلماء والشيوخ نائلين منك نيلا مغتابين إياك ومتنقصين تنقصا
قلت: أربأ بالعلماء عن مثل هذا التقاذف بالفرية والبهتان وتولي كبر الإثم والعدوان، فإن العلماء هم الذين يتأدبون بأدب الله تعالى وأدب رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى في كتابه “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ”. وقال: “يا ايها اللذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”. وقال: “لولَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ”. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وغيره: “كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع” وقال فيما أخرجه البخاري: “إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم والفتن فإن وقع اللسان فيها مثل وقع السيف”.
قالوا: ألحَّ بعض هؤلاء العلماء على أنهم عثروا على ذلك في بعض كتبك
قلت: إن كتبي ومقالاتي منشورة بين الخاصة والعامة، وليست محجوبة عن أحد ولا مخبأة، فليأتوا منها بما زعموا إن كانوا صادقين.
قالوا: كلفناهم ذلك فلم يحيلوا على مصدر مكتوب، فلعلهم سمعوك لفظت بها
قلت: إن دروسي ومحاضراتي وخطاباتي مسجلة، فليقفوني على موضع الظنة والريبة منها
قالوا: سألناهم عن ذلك، فزعموا متوهمين أو متخرصين أنهم لم يسمعوك مباشرة، ولكن سمعوا غيرك.
قلت: فهل سمع المرويُّ عنه مني؟
قالوا: بل إنه كذلك سمع غيره، والإسناد ليس ثنائيا ولا ثلاثيا ولا رباعيا، بل لعله أطول سند في العالم
قلت: لا بأس بطول السند إذا كان متصلا ومرفوعا إلي، فهل دُلِلتم على اسم هذا الذي سمعه مني؟
قالوا: لا. قلت: فهل يجوز تناقل مثل هذا الزور؟ وهلا استحييتم من إهدار وقتي في الإصغاء إلى الأراجيف والأكاذيب؟
قلت: ألم تسألوهم أن يتصلوا بي مباشرة، فإعلاء السند سنة الأئمة المتقين والعلماء الصالحين
قالوا: سألناهم ذلك، فلم يهتموا، وقالوا: قد وقع في قلوبنا هذا القول موقنين به، فرضينا بالنزول رضى، ولا نحس بحاجة إلى البحث والتحقيق؟
قلت: ألستُ من المسلمين؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”. ألم يُنْهَ المسلمون عن الوقوع في الأعراض؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان وجماعة: “إن دماءَكم، وأموالَكم حرامٌ عليكم، كحرمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا”؟
قلت: أستغرب جدا أن يشاع مثل هذا مني وأنا الداعي إلى احترام عامة المسلمين فضلا عن العلماء والشيوخ، وإلى توحيد كلمة المسلمين، ونبذ العصبية والشحناء والبغضاء.
قالوا: لعل هذا الجبل من الأكاذيب تولد من فأرة، ولعل حب إشاعة الفواحش بين المسلمين جَعَل من الحبة قبة؟
قلت: ماذا تعنون؟
قالوا: نتذكر أننا سألناك عن شيخ الحديث محمد زكريا رحمه الله تعالى فأثنيت عليه وأشدت بكتبه خاصة أوجز المسالك، ثم سألناك عن مجموعته بالأردية المسماة بـ”فضائل الأعمال”، فانتقدت ما فيه من أحاديث منكرة وموضوعة، فاستفسرناك عن سبب ذلك، فقلت: إن الشيخ لم يحقق كتبه في الفضائل تحقيقا، وذكرت أنه كان مريضًا لما ألف بعضها.
قلت: فشتان بين الأمرين، وقد كتب الشيخ نفسه في مقدمة بعض كتبه في الفضائل: أنه أصيب بمرض فمنعه الأطباء من كل ما يتطلب إعمال الفكر، فلم ترض نفسه أن يتعطل عن الكتابة والنظر في العلم، وألف بعض هذه الفضائل.
قالوا: فلعل الهوى حملهم على اختلاق الأباطيل
قلت: أليس المطلوب من العلماء أن يعُوا الأقوال ويتفهموها ويتفقهوها قبل أن يحملوها على غير محاملها، وما أحسن ما قاله العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: “من حمل الناس على المحامل الطيبة، وأحسن الظن بهم سلمت نيته، وانشرح صدره، وعوفي قلبه، وحفظه الله من السوء والمكاره”. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً”، وكان الصالحون يحسنون الظن ويلتمسون المعاذير حتى
قالوا: التمس لأخيك سبعين عذراً، وقال ابن سيرين رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعرفه.
قالوا: وما رأيك في مكان شيخ الحديث الكاندهلوي رحمه الله تعالى؟
قلت: من أنا حتى أرى فيه رأيًا؟ هو ريحانة عصره إمام رباني عالم محدث، وهو شيخ كثير من شيوخي؟
قالوا: من رويت عنه من تلاميذه؟
قلت: عدد كبير جدا يبلغ المائة أو أكثر، وأفضلهم عندي شيوخنا العلامة الشريف محمد الرابع الحسني الندوي، وشقيقه العلامة الشريف محمد واضح رشيد الندوي، والدكتور سعيد الرحمن الأعظمي الندوي، والعلامة المفسير برهان الدين السنبهلي، والعلامة الحافظ محمد يونس الجونفوري، وزميله العلامة عبد العلي المانوي، والعلامة يوسف متالا، والعلامة الحافظ عبد الفتاح أبو غدة.
قالوا: هل كتبت عنه شيئا قديمًا؟
قلت: نعم حلَّيته بتحليات وكتبتُ ترجمته
قالوا: اذكر لنا بعض هذه التحليات
قلت: حليته بـ”العلامة” و”المحدث الكبير” و”المحدث الكبير العالم الرباني” في ترجمة أبي الحسن الندوي المطولة المطبوعة في دار القلم في سلسلة أعلام المسلمين، و “شيخ الحديث العالم الرباني” في (العقد اللجيني) المطبوع في دار الغرب الإسلامي، و”المحدث الكبير الشيخ” في (بغية المتابع) المطبوع في دار القلم.
قالوا: وأين ترجمته؟
قلت: ترجمته في (الوفاء في أسماء النساء)، و(الفرائد) ثبت الشيخ يونس الجونفوري رحمه الله تعالى
قالوا: اذكر لنا ترجمته في الفرائد
قلت: هي: الإمام العلامة المحدث الشيخ محمد زكريا بن محمد يحيى بن إسماعيل الكاندهلوي المدني، شيخ الحديث بالهند، وأحد كبار المحدثين في العالم الإسلامي، ولد لإحدى عشرة ليلة خلت من رمضان سنة خمس عشرة وثلاثمائة وألف في كَانْدْهْلَه من أعمال مظفَّر نكر قرب دهلي، وقرأ مبادئ اللغة الأردية والفارسية على عمه الجليل الشيخ محمد إلياس بن إسماعيل الكاندهلوي مؤسس جماعة الدعوة والتبليغ العالمية، وأخذ سائر العلوم والفنون عن مشايخ مدرسة مظاهر العلوم، وقرأ كتب الأصول الستة على والده، ثم قرأ الصحيحين، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، والموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي، والموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني، وشرح معاني الآثار على الإمام المحدث الكبير الشيخ خليل أحمد الأيوبي الأنصاري، وعيّن مدرسًا في مدرسة مظاهر العلوم، وألف تآليف نافعة في الحديث والدعوة والإصلاح، أهمها أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك، توفي في المدينة المنورة في أول يوم من شعبان سنة اثنتين وأربعمائة وألف يوم الاثنين، ودفن بجوار شيخه المحدث خليل أحمد السهارنفوري في البقيع، رحمه الله رحمة واسعة.
قالوا: ما توصينا به؟
قلت: عليكم بما يهمكم في دينكم، ولا تدافعوا عني، ولا تنظروا إلى طعن الناس في، ألا يكفيكم أن الله شغلني بذكره والعلم والأدب، وشغل هؤلاء بعيوبي، وشتان بين الذكرين، وكلا الذكرين يزيد في حسناتي، فإذا كرت الله تعالى ذكرني وأثابني، وإذا وقع الناس في وصبرتُ كان الله معي، وهل ثمة مقام أفضل من معية الله تعالى؟