الكُلِّيُّ

Reading Time: 6 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: ما معنى الكُلّ؟

قلت: هو اسم لمُركَّب من أجزاء.

قالوا: وما معنى الجزء؟

قلت: هو كل ما يتركب الشيء منه ومن غيره، فكل فرد من أفراد الكل جزء له.

قالوا: اشرحهما لنا بمثال:

قلت: صحيح البخاري مثلاً مركب من كتب الإيمان والعلم والطهارة والصلاة وهلم جرا، فصحيح البخاري كلٌّ، وكتبه أجزاؤه.

قالوا: وهل يكون الجزء كُلاًّ بالنسبة إلى أجزائه؟

قلت: نعم فكتاب الإيمان من صحيح البخاري كُلٌّ، وأبواب كتاب الإيمان أجزاؤه. كذلك صحيح البخاري جزء بالنسبة للأصول الستة، فالكل والجزء في عامة أشكالهما أمران إضافيان.

قالوا: وما معنى الكُلِّي؟

قلت: هو مفهوم تقع فيه الشركة، أو هو مفهوم لا يمتنع صدقه على كثيرين.

قالوا: وما هو الجزئي؟

قلت: هو مفهوم لا تقع فيه الشركة، أو هو مفهوم يمتنع صدقه على كثيرين.

قالوا: أوضحهما لنا بمثال.

قلت: الحيوان مثلاً كُلِّيٌّ، يشترك في مفهومه الإنسان والفرس والبقرة، والإنسان جزئي منه لا يشترك في مفهومه الفرس والبقرة.

قالوا: بَيِّن لنا الفرق بين الكل والكلي، وبين الجزء والجزئي.

قلت: الكل والجزء من الأشياء الموجودة في الخارج، والكلي والجزئي من الأمور الذهنية التي لا وجود لها في الخارج، فمثلا “زيد” كل، وهو موجود في الخارج، ويداه، ورأسه، وبطنه، وظهره، ورجلاه، أجزاء له موجودة في الخارج، وإذا قلنا: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد، فالكلمة مفهوم كلي في الذهن، والاسم والفعل والحرف جزئيات له ذهنية، والكل لا يصح إطلاقه على أجزائه، بينما يصح إطلاق الكلي على جزئياته، فلا يقال: الرأس زيد، أو البطن زيد، أو الظهر زيد، ولكن يصح أن يقال: الاسم كلمة، والفعل كلمة، والحرف كلمة.

واعلموا أن لفظا واحدا قد يستعمل في معنى الكل، وقد يطلق في معنى الكلي، فمثلا إذا قيل: الإنسان ينقسم إلى الجسم والروح، فالإنسان هنا كل، والجسم والروح من أجزائه، وإذا قيل: الإنسان ينقسم إلى مؤمن وكافر ومنافق، فالإنسان في هذا المثال كلي، والمؤمن والكافر والمنافق جزئياته، وإذا قيل: الكلمة تنقسم إلى اسم وفعل وحرف، فالكلمة هنا كلي، والاسم والفعل والحرف جزئياته، وإذا قيل: الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف، فالكلام هنا كل، والاسم والفعل والحرف أجزاؤه، وإن المتقدمين من علماء الإسلام يميلون في تقسيماتهم إلى تقسيم الكل إلى أجزائه، ويجنح المتأخرون إلى تقسيم الكلي إلى جزئياته، وذلك بتأثير المنطق اليوناني فيهم.

قالوا: ما هي أنواع الكلي؟

قلت: الكليات عند المنطقيين ومن تبعهم من أهل العلوم خمس، وهي 1- الجنس كالحيوان، 2- والنوع كالإنسان، 3- والفصل كالناطق، أي الوصف الذاتي الذي يفصل الإنسان عن سائر أفراد جنس الحيوان، والفصل عندهم الوصف الداخل في حقيقة الشيء، 4- والعرض الخاص ويسمى الخاصة، وهو الوصف الخارج المختص بالذات، كالمتعجب بالنسبة للإنسان، 5- والعرض العام، وهو وصف خارج عن الذات يعمه وغيره، كالماشي بالنسبة للإنسان، فإنه لا يختص بالإنسان، بل يعم غيره من الحيوانات.

قالوا: هل توافقهم على هذا التقسيم الخماسي؟

قلت: لا، وإنما أختار التقسيم الرباعي: 1- الجنس، 2- والنوع، 3- والوصف الخاص، 4- والوصف العام، وأرى هذا التقسيم الرباعي يكفينا في العلوم، لأن ما يسمونه بالفصل ليس إلا تحكُّما، يزعمون أن الإنسان حيوان ناطق، وهم لا يعرفون حقيقة الحياة، ولا حقيقة النطق، وكذلك لا يعرفون حقيقة الإنسان، فأنى لهم أن يعرفوا وصف الإنسان الذاتي الداخل في حقيقته؟ وهل ثمة دليل على نفي النطق عن الملائكة والجن؟ ولعلي أنتقد غلطهم في الحد والتقسيم في مقال آخر إن شاء الله تعالى.

قالوا: اشرح لنا مفهوم النسبة بين كُلِّيَّين.

قلت: النسبة بين كليين على أربعة أنواع:

1- نسبة التساوي، وهي أن يصدق كل منهما على ما يصدق عليه الآخر، كالنسبة بين الإنسان والآدمي، فكل إنسان آدمي، وكل آدمي إنسان، ومنها نسبة التكافؤ، وهي أن يصدق كل واحد من الكليين على ما يصدق عليه الآخر في أصل المفهوم، ويتباينان في تأكيد بعض صفاته وأحواله، ومن أمثلته: النسبة بين الحيوان والحساس، فإن مسمَّاهما واحد، ولكنهما جهتان مختلفتان للنظر إليه، ومن أمثال التكافؤ صفات الله تعالى، فمن ظنها متساوية، لم يفرق بينها في استعمال القرآن، فغاب عنه معانيها التي أرادها الله في سياقها الخاص، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن اختلاف السلف في التفسير معظمه من هذا القبيل، كاختلافهم في تفسير “الصراط المستقيم”، فمنهم من فسره باتباع القرآن الكريم، ومنهم من فسره بدين الإسلام، والنسبة بين الاثنين نسبة التكافؤ.

2- نسبة التباين، وهي أن لا يصدق شيء منهما على شيء مما يصدق عليه الآخر، كالنسبة بين المسلم والكافر، ومنه قوله تعالى: “قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور”، وقوله تعالى: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”، ومن التباين اشتراك كليين في اللفظ وتباينهما في المعنى، وإنما اشتركا في اللفظ لضيق اللغات البشرية، لو كان ثمة سعة لكان لكل كلي لفظ مختلف، وتختلف اللغات في ذلك اختلافا كبيرا، فبعضها أوسع من بعض، ولعل اللغة العربية أوسعها جميعا.

3- نسبة العموم والخصوص مطلقا، وهي أن يصدق أحدهما على كل ما يصدق عليه الآخر، ولا يصدق الآخر إلا على بعض أفراده، كالنسبة بين المؤمن والإنسان، فكل مؤمن إنسان، وليس كل إنسان مؤمنا، وهذا كثير في تفسير السلف، إذ يفسرون الجنس ببعض أنواعه، فيظن من لا علم له أنهم اختلفوا متوهما أن بينهما نسبة التساوي، مثل تفسير ابن عباس “متوفيك” بـ”مميتك”، مع أنه من العموم والخصوص المطلق، فالتوفي أعم من الإماتة، وقد سمى الله في كتابه “الصابرين” محسنين، و”المتقين” محسنين، فليس معنى ذلك أن الصبر هو الإحسان، ولا أن التقوى هي الإحسان، بل الإحسان معنى أعم يشمل التقوى والصبر وغيرهما، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه” ليس من التساوي، بل هو من العموم والخصوص المطلق.

4- ونسبة العموم والخصوص من وجه، وهي أن يصدق بعض كل واحد منهما على بعض ما يصدق عليه الآخر، كالنسبة بين الإنسان والأبيض، فبعض الإنسان أبيض، وبعض الأبيض إنسان، وكالنسبة بين المسلم والعربي، فبعض المسلمين عرب، وبعض العرب مسلمون، وقد أخطأ كثير من الناس في فهم النسبة بين النبي والرسول، فظنوا أن النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، أي النبي أعم من الرسول، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا. والصواب أن النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه، أي ليس كل نبي رسولا، ولا كل رسول نبيا.

قالوا: اذكر لنا أمثلة أخرى تشرح لنا أغلاط الناس لخطئهم في إدراك النِّسَب بين الكليات.

قلت: في حديث جبريل تفسير للإيمان والإسلام، والنسبة بين الإيمان وبين ما فسر به الإيمان ليست نسبة التساوي، والنسبة بين الإسلام وبين ما فسر به الإسلام ليست التساوي، وفي آخر الحديث سمى كل ذلك دينا، وليست النسبة بين الدين وبين المذكور التساوي، وإنما النسبة في هذه الأمثلة كلها نسبة العموم والخصوص المطلق، كذلك النسبة بين الخلافة والأمانة المذكورتين في القرآن الكريم ليست التساوي، وإنما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، فالأمانة أعم من الخلافة.

والنسبة بين الإيمان والإسلام ليست نسبة التساوي، ولكنها نسبة التباين، وإنما خفي على كثيرين هذا التباين لما بينهما من التلازم أو التلاصق، فقالوا: الإيمان والإسلام واحد، والخطأ عند المتكلمين والفقهاء كثير في فهم النِّسَب، فغلطوا في التسوية بين الاعتقاد والإيمان، وبين الحيض والجنابة في المنع من قراءة القرآن ودخول المسجد، وبين الكلب والخنزير في النجاسة.

وظن كثير من الناس أن النسبة بين الدين واليسر نسبة التساوي، فكل ما كان دينا كان يسيرا وكل ما كان يسيرا كان دينا عندهم، والصواب أن النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، فالدين أعم من اليسر من جهة، واليسر أعم من الدين من جهة، فلو قيل: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم “إن هذا الدين يسر”؟ قلت: هو كقوله صلى الله عليه وسلم: “الإيمان يمان، والحكمة يمانية”.