بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: عهدُنا بك منقطعا إلى التعليم والدعوة والكتابة، طاويًا كشحك عن قضايا أمتك ووطنك ومجاري الأمور التي تهُزُّ العباد وتزلزل البلاد، وقد بلغ السيل الآن الزُّبى وطمَّ الوادى على القرى، إذ جرَّ هذا الرجل من الويل والشقاء على المسلمين بل والعالَمين ما أنت به عليم، فما بالك ملتزمًا صمتًا هو أقرب إلى الجبن والوهن والخور؟ قلت: لي نفس صبور على التقريع والعتاب وسمع أصم عن التعنيف والملام، ولكن الكِلام على الكلام، أن يخاطبني تلاميذي وأصحابي هذا الخطاب، أفهي مقالة قذفها غيركم فاختلستموها؟ قالوا: أبينا أن نسيء إليك ومنك تعلمنا الأدب والسمت،
قلت: لمَّا انتُخب هذا الرجل اكتسح المسلمين إحباط ووجوم، فرصَّفت مقالا لطيف المدخل وبيّن المخرج يزيل عنهم التشاؤم والقنوط، ويبعث فيهم التيمن والإيناس، أَحْرِ بِكم أن تَقِفوا عليه؟
قالوا: قد فعلنا، إلا أننا أعيانا أن نستوعب معنى مجانبتك السياسة قاليًا لها وماقتًا، وودِدنا أن نتبعك على بينة ووضوح محجة.
قلت: أنتم إخواني، وما قِبَلي مبذولٌ لكم، والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، فأي نَمط من أنماط السياسة تعنُون؟
قالوا: وهل هي على ضروب وأنواع؟
قلت: نعم، تطلق على معنى عام يشمل سياسة الفرس وسائر الحيوانات وسياسة المنزل والجمعيات والمؤسسات، وتُستعمل للسياسة الشرعية، وطارحتُ النوعين وحاصَصْتُهما في دروسي ومحاضراتي، وتَفَشَّى استخدامُها في العصر الحديث للسياسة الحزبية في النظام الديمقراطي.
قالوا: رَمَينا إلى المعنى الأخير،
قلت: أو تظنونِّي أزاول هذه السياسة وهي تُناقض العلم في صميم جوهره؟
قالوا: فانْعَتْ لنا كيف يتعارضان وأين يفترقان؟
قلت: بيانُه يتسع، ولكني أختزله لكم في نقاط اختزالا.
الأولى أن العلم بحثٌ عن الحق ومتابعةٌ له، فطالب العلم يفرح بمطلوبه ولو جرى على لسان خصمه أو باحت به سيرة عدوه، والسياسة بحثٌ عن التغلب على الخصم والتمادي فيه بأي وسيلة من الوسائل، حقةً كانت أو باطلةً، والمتمتعون بها لا تعنيهم محاسنُ خصومهم، وإنما تهمهم مساوئُهم ومواضعُ الضعف فيهم، بل ويصوِّرون محاسنهم كأنها مساوئ، ويختلقون الأباطيل، ويفترون الكذب، ويستكينون إلى الاستهزاء والسخرية والتنابز بالألقاب وقذف المحصنين والمحصنات.
والثانية أن العلم يعدل بين الناس مهما كانت أصولهم أو فروعهم، وأجناسهم أو أصنافهم، والسياسة تجعل الناس فرقا وشيعا، وتقسمهم إلى طبقات وأشكال، ثم تستَغلُّ هذا التقسيم، وتُهيِّج طبقة على طبقة، وتستفِزُّ فرقة ضد فرقة، وتؤلِّب حزبا على آخر، فإذا انضم العالم إلى حزب أو انحاز إليه شاقَّتْه الأحزاب المعارضة له، وكاشفَتْه بالعداوة، فكيف يدعو أتباعَها إلى الصدق والحق، والأنبياء وهم أعلمُ الناس لا يَمْتَطون صراعًا طبقيًّا ولا يستغلُّون شيئًا من الفوارق العرقية والقبلية بين الناس.
والثالثة أن العلم يهدي المسلم إلى النظر في الدنيا والآخرة، فيعلم أولوياته فيهما، وقال تعالى: “بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى” والقرآن الكريم حافل بمثل هذه الآيات، والأحاديث في ذلك مستفيضة معلومة، والسياسة تتحدث عن مشاكل الدنيا، كأنها هي الهم الأكبر والشغل الشاغل والشجن الغالب، وتجعل البقاء على وجه الأرض عبارة عن الفم والفرج، والبطن والمعدة، وذوو السياسة من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهي مبلغ علمهم، ومنتهاهم في العمل والكفاح، والعَالِم مالُه علمُه وعقلُه وما قدّم من صالح عملِه، وهو خليق أن لا يغفل عن أمر آخرته.
قالوا: إذا تخلَّى العالم المسلم عن السياسة فمن ينظر في مصالح المسلمين؟
قلت: عن أي المصالح تتحدثون؟
قالوا: عن رقي المسلمين.
قلت: عن أي جوانبه؟
قالوا: صلاح نفوسهم وتحسن أخلاقهم، وتقدُّمهم في العلوم والفنون، والمال والثراء.
قلت: وأنى الترابط بينها وبين السياسة، فالصلاح وحسن الأخلاق يعتمدان على الإيمان والإسلام، وهما مستغنيان عن السياسة ومتعاليان عليها، ومصونان عن أوضارها وأدرانها، والعلوم والفنون تتأتى بالاكتساب، فأنشؤوا المدارس والكليات والجامعات، وتَعاهدوا المسلمين بالدراسة، ويُقتنى المال ويُتأثل ويُحاز الثراء ويُدَّخر بوسائله من التجارة والزراعة والصناعة والعمل والمهن والوظائف.
قالوا: تعلم ما يواجه المسلمون من تمييز ضدهم في المجتمعات البشرية والمصالح الحكومية، فإذا حصلت لهم قوة سياسية نالوا الكرامة وربِحوا الوظائف.
قلت: لقد أسرفتم في تقدير صلاحية الأحزاب السياسية وضخَّمتم أمرها واشتططتم اشتطاطا، إن السلطة في النظام الديمقراطي كامنةٌ وراء الحجب والستائر، ومعظمها في أيدي الأفراد والمؤسسات التي لم تُنتَخب. والطريق الصحيح لنيل الوظائف وإحراز الرُّتَب هو التفوق والإتقان، لا الولاء لحزب من الأحزاب، أو التوسل بفرد من الأفراد، فأتوا البيوت من أبوابها إن كنتم لسنة الله في خلقه وأمره متَّبعين.
قالوا: أَحَطْنا بحقيقة مذهبك وعَقَلْنا الوجه الذي من أجله يتنكَّر العلماء للسياسة مُزْوَرِّين عنها مُعرضين، وإنَّا إن شاء الله لمَسلكهم النَّهج قاصدون، ولمَشْرعهم السَّهل واردون.