بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما الذي يشد انتباهك وأنت تنضم إلى قوافل ضيوف الرحمن أيام الحج في الحرم الشريف صارفا إياك عن مصرك وعصرك وصادا إياك عن صحبك وركبك صدودا؟
قلت: يشد انتباهي أمران شدا كبيرا، يغلبانني ويقهرانني قهرا فلا أستطيع دفعهما ولا تأجيلهما تأجيلا،
قالوا: ما هما؟ عجل الكشف عنهما فقد هجت فينا شوقا وأثَرْت فينا تطلعا،
قلت:
الأول: استقلال الحج عن الزمان، فليس مقيدا بعهد من عهود التاريخ، أو ذكرى من ذكريات الأمم الماضية وسلاطينها المستبدين المقتدرين، بل إنه وراء حدود الزمان منطلقا منها انطلاقا، إنه حافل بارتباطات غارقة في القدم، كلها ترجع إلى ما قبل مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الإسلام لم يغيرها ولم يعدِّلها، وإنما طهر ما ألحق بها من الممارسات المحلية والزمنية، وردَّها إلى أصالتها البريئة التي ما أغناها عن أوضار زمانها، وما أصفاها وأسماها.
والثاني: استقلال الحج عن المكان، فليس مقيدا بمناخ دون مناخ، أو تقليد شعب محصور في محيطه الضيق، بل إنه وراء حدود المكان منعتقا من شوائب البيئات ولوثات البقاع انعتاقا، إنه جامع للشعوب والأمم على اختلاف ألوانها وبلدانها ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها ورسومها، وحضاراتها وثقافاتها، وعلومها وفنونها وآدابها، يخرج الحاج من قومه وأهله ووطنه، حتى ومن البيوت والأشجار والثياب العادية إلى صحارى وبواد وجبال ووهاد لا يعلق به عالق، ولا هو يتشبث بأذيال شيئ تشبثا.
قالوا: ما الذي تعني بالارتباطات؟
قلت: ارتباطات سنَّها إبراهيم وأهل بيته عليهم السلام.
قالوا: أو ليس إبراهيم عليه السلام وليد زمان ومكان؟
قلت: اعلموا أن الحج ليس زيارة محضة لأماكن مقدسة كما نرى في الديانات الأخرى، فزمن الحج محدد لا يصح إلا فيه، وأفعاله محددة لا يجوز إلا بها، ولا علاقة لشيء منها بقوم إبراهيم عليه السلام أو بأرضه أو بأي شعب من الشعوب وبلد من البلاد، إن الحج تذكير بتاريخ حافل بالحياة والنشاط للإسلام لله تعالى، والإسلام لله تعالى لا يحده زمان ولا مكان، ولا يختص به شعب مختار من الشعوب أو أمة مصطفاة من الأمم، ومظهر الإسلام التام هو إبراهيم عليه السلام وأهله، وهذا هو السر في عالمية إبراهيم عليه السلام، وعالمية الحج، وعالمية شعائره، فقال تعالى: “إني جاعلك للناس إماما”، وقال: “وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا”، وقال: “ولله على الناس حج البيت”، فأطلق الناس، من غير تقييد ببني إسماعيل أو بني إسرائيل، أو العرب أو العجم.
قالوا: ما أهمية ارتباط الحج بإبراهيم عليه السلام وأهله؟
قلت: إن دين الله هو الدين منذ خلق الله السماوات والأرض، وهو الدين الذي شرعه الله تعالى لآدم ونوح وسائر الأنبياء والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الجزاء والحساب، وكان الدين في حاجة إلى ملة أي طريقة تجعل الدين حركة وتبعث فيه الحياة والقوة والنشاط وتحميه من أن يتحول إلى عادات وطقوس، فيفقد معنويته ويتجرد عن روحه، واختار إبراهيم عليه السلام إماما لهذه الملة لما أتم الكلمات التي ابتلاه الله بها، وأمر الناس أن يتبعوا ملة إبراهيم، حتى إن نبينا صلى الله عليه وسلم أمر بذلك “ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا” (سورة النحل 123)، وقال تعالى: “قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا” (سورة آل عمران 95).
قالوا: كيف تبعث الملة الإبراهيمية الحياة في الدين وتعصمه من الهرم والمرض والزوال؟
قلت: انظروا في عناصر هذه الملة ومقوماتها ينجل لكم خفي الأمر ويبرز لكم غامضه،
قالوا: ما عناصرها؟
قلت: هي ثلاثة، وعنصر رابع يشتمل على شعائرها، فكل حركة تتجسد معانيها في شعائرها، كذلك ملة إبراهيم تتجسد معانيها السامية في شعائرها،
قالوا: اشرح لنا عناصر الملة الثلاثة وشعائرها،
قلت:
العنصر الأول: الحنيفية، وتبدأ بإعمال العقل والتفكير والنظر في الكون وإدراك أن الكون وما فيه معتمد على الله تعالى فهو الصمد الحي القيوم، وأنه لا وجود لغير الله ولا بقاء له إلا به، وما كان كذلك فهو آفل، وتنتهي إلى الانقطاع التام عن الآفلين إلى ربهم، وتتلخص هذه الحنيفية في قولين لإبراهيم عليه السلام: “لا أحب الآفلين”، و”إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين”، والحج رحلة الحنيفية أي الزهد في الدنيا ووسائلها وملابساتها وأمتعتها، ومهاجرتها إلى الله رب العالمين.
والعنصر الثاني: الإسلام، فلما هدى إبراهيمَ عقلُه إلى الحنيفية أسلم نفسه لرب العالمين، وكان أكبر الإسلام هو ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، قال تعالى: “فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين، ونادينا أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين” (سورة الصافات 101-105)، وأهم أركان هذا الإسلام هو الحلم والصبر، والحج إسلام لله تعالى، وحلم عن الغضب والشهوات، وصبر على المشاق والشدائد.
والعنصر الثالث: عدم الإشراك بالله، إن ملة إبراهيم ترد كل شائبة من شوائب الشرك، فإبراهيم عليه السلام رأس الموحدين، قال تعالى: “واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذٰلك يفعلون، قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين”. (سورة الشعراء 69-83)
والرابع: الشعائر، ومعظمها الكعبة المشرفة وما حولها من الصفا والمروة وعرفات والمشعر الحرام، فهذه الشعائر تجسيد للملة، والحج إليها لمشاهدتها والتخلي عن الروابط والاتصالات البشرية، ومن أهمية هذه الشعائر أن المسلمين أمروا بأن يولُّوا وجوههم شطر المسجد الحرام في صلواتهم وعند كل مسجد.
قالوا: فما موضع الحج في الإسلام؟ قلت: هو إكمال هذا الدين وإتمام نعمة الله تعالى، قال: “إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما” (سورة الفتح 1-2)، أي إن الله تعالى جعل فتح مكة سببا آمنا للحج، وجعل الحج مغفرة للحجاح، وبذلك أتم نعمته عليهم، وقوله “ويهديك صراطا مستقيما” هو إكما هذا الدين، ومن ثم أنزل في حجة الوداع: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي” (المائدة 3).
قالوا: كيف أوَّلت قوله “ليغفر لك” إلى مغفرة الحجاج؟
قلت: إن قوله “إنا فتحنا لك” خطاب للمؤمنين بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، قال في سورة محمد: “وأنتم الأعلون والله معكم” (محمد 35)، ومعنى “معكم”: ناصركم، كما قال: “إن الله مع الصابرين”، أي ناصرهم، وقوله “ليغفر” أي لتستغفروه في الحج وتسبحوه فيغفر لكم، وقال: “لك” مفردا ضمير الخطاب، فاعلموا أن النبي يحمل ذنب أمته ويشفع لها، فالإضافة ليست إلى الفاعل، وإنما هي للمتصرف، وهو معنى ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”.