بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ألم نُخبر أنك تجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، جمع تعجيل وتأخير؟
قلت: أُخْطرتم بأمري وقُصَّ عليكم شأني ولم تُكْذَبوا،
قالوا: أليستِ الصلاة أولَ الفرائض وأوكدَها؟ أوَ لم تَتَّعظ بما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد على إضاعتها؟
قلت: بلى، وحُقَّ لنا أن نَتَّعظ بكتاب ربِّنا جل وعلا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم،
قالوا: أسأنا الظنَّ بالمسلم إذا قصَّر في الصلاة وتهاون بها أو تكاسل عنها وأهمل شأنها، وأنت رجل يقتدى بك، ونُكْبِر قدرَك أن نستريب مَأْتَاك، فما غرَّك بربك الكريم وجرَّأك على ما جرَّأك؟
قلت: إني عبدُ الله خُلِقتُ ضعيفًا، فاستهناْتُ رُخصَه كما تشبَّثْتُ بعزائمه متوكلا عليه ومستعينا به، واحتسبتُ العهدين ناظرًا إلى رحمته وراجيًا ثوابه، فإنه يُحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه.
قالوا: وما أعلَمَك بالرخصة؟
قلت: ما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم،
قالوا: أَوردْ لنا منه طائفة.
قلت: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. ولا أرى حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم وغيره من طرق مختلفة وألفاظ متقاربة يعزب عمن دونكم بله أمثالكم.
قالوا: صَدَّقْناك في صحة هذه الأخبار وقوَّتها، فهل قال بالجمع أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعدهم؟
قلت: ذهب إليه سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومعاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وابن المنذر، وخلق رضي الله عنهم.
قلت: أليس لكم حجة فيما رويتُ لكم من السنة، وأسوة فيما حكيتُ لكم من مذاهب الصحابة وأئمة الأمصار؟
قالوا: يصرفُنا عنه قول الله تعالى “إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا”، وهو عامٌّ يشمل الصلوات كلها في السفر والحضر، والصحة والمرض، والصحو والمطر.
قلت: الكتاب والسنة يتآلفان ولا يتنافران، فما لكم لا تستثنون حال السفر من الحكم الذي دل عليه القرآن؟
قالوا: إن العامَّ من كتاب الله تعالى عندنا قطعي، لا يجوز تخصيصه بأخبار الآحاد والقياس.
قلت: إنه مذهب ضعيف جدا.
قالوا: لا يُهِمُّنا مهما ضعَّفتَه أو وهَّيتَه، فقد انتشر مذهبنا في الآفاق، ولم نُعوز فقهاء وعلماء في مصر من الأمصار أو عصر من الأعصار.
قلت: فماذا لو رَدَّ عليكم أصلٌ من أصول مذهبكم ونَقَض رأيَكم نقضًا؟
قالوا: لا تعدُ طورَك باغيًا علينا ومستخفًّا بشأننا، وهات ما زعمتَ إن كنت من الصادقين.
قلت: هل العامُّ عندكم نوع واحد؟
قالوا: لا، بل العامُّ عندنا نوعان: عامٌّ لم يُخَصَّ منه شيء، وعامٌّ خُصَّ منه بعضُه.
قلت: يتَّحدان في الحكم أم يَختلفان؟
قالوا: يختلفان، فالعامُّ الذي لم يخص منه شيء قطعي الدلالة لايجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس، والعامُّ الذي خُص منه شيء ظني الدلالة يجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس.
قلت: فالذي احتججتم به من قول الله تعالى أهو من العامّ القطعي أم من العامّ الظني؟
قالوا: هو قطعية دلالتُه.
قلت: ألم تخُصُّوا منه صلاتي الظهر والعصر بعرفة، وصلاتي المغرب والعشاء بالمزدلفة، فقد اخترتم كما اختار غيركم الجمع بين الصلاتين في المكانين للحاجِّ.
قالوا: هذا مذهبُنا الذي توارثناه ورأينا الذي تناقلناه.
قلت: فلم تَعُد الآية قطعية ولا على عمومها، وجاز تخصيصُها – على أصلكم – بخبر الواحد والقياس، ولزمكم أن تقولوا بالجمع إن كنتم للدليل منصاعين، وللحق مطاوعين.
قالوا: نحمل الحديث على الجمع صورةً، فنؤجل الظهر إلى آخر وقتها ونعجِّل العصر إلى أول وقتها، وكذلك نؤجل المغرب إلى آخر وقتها ونعجل العشاء إلى أول وقتها.
قلتُ: هذه مشاكسة للأحاديث التي نطقت بأداء الصلاتين في وقت إحداهما غير تاركة التباسًا ولا غموضًا، وهو المعنى المتبادر إلى الذهن بكلمة الجمع، شئتم أم أبيتم، وهو الذي مَضَت عليه الأمة في أمر الجمع في عرفة والمزدلفة، وإنَّ ما تكلفتم من التأويل يُناوئُ حِكمَة الجمع، لأن الجمع رخصة وتوسعة على المسافر، وما أوَّلتم به تضييق للوقت عليه وإرغامه الترصُّد والارتقاب، وهو أشدُّ حرجا من الإتيان بكل صلاة في وقتها.
قالوا: وهل جمع أحد من علمائنا؟
قلت: قد جمعت عربكم وعجمكم، وفقهائكم وعوامكم، سرًّا وعلانية.
قالوا: هلاَّ سميتَ بعضهم؟
قلت: قد جمع الكاتب البارز محمد منظور النعماني تلميذ العلامة أنور شاه الكشميري، وشيوخنا العلامة المحدث الفقيه عبد الفتاح أبو غدة، والإمام الرباني أبو الحسن علي الندوي، والحافظ الكبير محمد يونس الجونفوري شيخ الحديث في مدرسة مظاهر العلوم بسهارنفور وآخرون.
قالوا: أُيِّدتَ من فصل الخطاب بحكمة تنبئ عن الحق المبين، بَيْدَ أننا يشُقُّ علينا أن نَهْجُر إمامنا الأعظم وأصحابه ونُباينَهم، فدعْنا وتأنَّ في أمرنا واتَّئِدْ.
قلت: إني لِلحلم والتؤدة لَمِن المُصَافِين، ولِلجهل ولِعيب الناس لَمِن العائفين.