الاقتصاد في العصر الحديث

Reading Time: 3 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قالوا: قرأنا مقالا لك بعنوان “وهل من بديل” نلت فيه من التمويل الإسلامي وشنعت عليه تشنيعا، فوددنا أن تبيِّن لنا مناحي نقدك لهذا الموضوع بيانا شافيا،

قلت: إن ذلك يتطلب أن تعُوا حقيقة الاقتصاد والاجتماع في العصر الحديث وتستوعبوها استيعابا، لأن التمويل مقترن بالاقتصاد، والاقتصاد مماسٌّ للاجتماع.

قالوا: اشتقنا إلى أن نسمع منك حقيقة الاقتصاد الحديث.

قلت: إن النظام الاجتماعي الاقتصادي الحديث قد جنى على البشرية جنايات عظيمة، من أبرزها أنها جردت بعض الوظائف والممارسات والعمليات البشرية من سياقاتها وواقعاتها الملموسة التي تم إنشاؤها وتطويرها في قواعدها ومقارها، وإن قطع صلة الشيء عن أصله وأساسه يغير معناه ومغزاه، ويؤثر في عقباه ومؤداه.

قالوا: اشرح لنا ذلك بمثال.

قلت: أنشأ الله تعالى جسم الإنسان وعقله مطورين للتأقلم مع الجوع وآلفين له إلفا، فإذا جاع الإنسان لم يحتج إلى دعم خارجي لعلاج الجوع، بل هو مفطور على احتماله ومقاساته، كذلك جعل الله الجسم والعقل متأقلمين مع المشقة، فإذا واجه الإنسان مشاق ومصاعب في حياته تأقلم معها وصبر عليها تلبية لنداء من فطرته، ولم يحتج إلى دعم من الخارج، بينما نرى النظام الاجتماعي الحديث يُحدث فرصا ويصطنع مناسبات للسمنة المفرطة والتهريبة واللتين لم يفطر عليهما الجسم والعقل، فالجسم لا يتأقلم مع السمنة المفرطة والتهريبة، وكذلك العقل لا يحتملهما، فتتمخض السمنة والتهريبة عن آثار سلبية كبيرة في الناس أفرادا ومجتمعات، وحينئذ يلجأ إلى الدعم الخارجي للتأقلم معهما ومواجهتهما، فيقع في ورطات وعقبات، ويتعرض لعوائق ومآزق، لا يجد للخروج منها سبيلا.

قالوا: صف لنا تجرد الاقتصاد عن أصله وسياقه.

قلت: تمت في العالم الغربي ومنذ بداية القرن التاسع عشر هيمنة نموذج خاص للنشاط الاقتصادي، فصل فيه الاقتصاد عن الأخلاق والسياسة والقانون فصلا تاما، يعتقد هذا النموذج أن الدافع وراء النشاط الاقتصادي ليس إلا شيئا واحدا، وهو الربح، ومن ثم يُحَدُّ النشاط الاقتصادي الصادق كتوزيع فعال للموارد النادرة حيث يتم قياس الفعالية والكفاءة بتكبير حجم الأرباح ومضاعفة المغانم.

قالوا: وما مطعنك في هذا النموذج للنشاط الاقتصادي؟

قلت: هذا النموذج تصوير كاذب زائف ووصف مزور أفاك للعالم الذي خلقه ربه سبحانه وتعالى، لا ننكر ما لكسب الأرباح وتحقيق المنافع من دور في مواصلة النشاط الاقتصادي وتسييره التسيير الطبيعي المعتاد، ولا يعدو حسب هذا المفهوم أن يكون وسيلة من الوسائل، لا غاية، فإذا تحول كسب الأرباح غاية انقطع النشاط الاقتصادي عن كونه عنصرا من عناصر السعادة البشرية، وفرض على المجتمع معضلات من المنفعية والاستغلال وتضخيم الأرباح وتكديس الثروات وزاد من معاناته ومحنته زيادة لا تطاق.

قالوا: فما الاقتصاد الصحيح؟

قلت: إن عمليات الحياة الاقتصادية الأوسع هي تبادل البضائع إلى جانب التبادل المرافق للأفكار والقيم، والمشاركة في الخير العام والسعادة الشاملة للأرض وتعمير البشر عليها وتمديده وتوسعته، ويمثل ذلك في الشعائر والتقاليد التي تعبر الشكر على ما تم إنتاجه في الأرض والجهد البشري، ونلاحظ ذلك في الاحتفالات والأعياد الموسمية لجميع الثقافات في العالم، فالحياة الاقتصادية جزء من الخير العام، ومن المفروض أن يضيف إليه.

قالوا: ما الذي تعني بالخير العام؟

قلت: معناه أن يتم توزيع ثمار الاقتصاد وإشراك الناس فيها منتفعين ومستثمرين لها، ومن ثم قد طورت معظم الثقافات التنسيقات الاجتماعية لتشجيع التعاون والتآكل والتشارب وطرق للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، فالحياة الاقتصادية عبارة عن الأمرين جميعا: إنتاج الثروة وتوزيع الثروة.

وقلت: إن النظام المعاصر يفصل بين الاثنين، حيث صار النشاط الاقتصادي عبارة عن تركيز الثروة وتكديسها تكديسا معيبا، وقد أدى هذا الاتجاه في الزمن الحديث إلى فصل تام تقريبا للقطاع التمويلي عن النظام الاقتصادي الحقيقي، وفوق ذلك فإن القطاع التمويلي – انطلاقا من ثراوته الهائلة – قد صار مستقلا عن الولاء المنطقي والطبيعي والثقافي، وليس لكبار الأثرياء رغبة في معرفة من يدفع الفائدة الربوية ما دام يتحقق دفعها بطرق سمحة.

قالوا: ألا ترى أن الاقتصاد الإسلامي يسعى لإعادة النشاط الاقتصادي إلى سياقه الحقيقي بربطه بالمبادئ الخلقية.

قلت: لا، لأن الاقتصاد الإسلامي لا يذكِّر إلا ببعض المبادئ البسيطة التي لا تقدم شيئا ولا تؤخره، وهو تابع للاقتصاد الحديث في أعظم مضاره خاضع له خضوعا يخجل منه المسلمون وسائر المنصفين في مشارق الأرض ومغاربها، وهو جعل كسب الأرباح الغاية الحقيقية الوحيدة للنشاط الاقتصادي.

قلت: ومن المأساة الكبرى أن الاقتصاد الإسلامي يستحيي من ذكر الإيمان باليوم الآخر في سياق الاقتصاد، ولا شك أن الاقتصاد يستحيل إصلاحه بدون الإيمان باليوم الآخر، لأن الدنيا إذا قطعت عن الآخرة زادت الإنسان غرورا وضلالا وغيا وأضرت بالمجتمع البشري إضرارا بالغا وأوقعته في الخسران المبين.