بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما شرط الاهتداء بالقرآن الكريم؟
قلت: هو ما أرشد الله تعالى إليه إذ قال: “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب” الآية، فوصف المتقين بنعوت مميزة لهم عن غيرهم وجاعلة إياهم محلا صادقا لهداية رب العالمين ومعدة إياهم لمرتبة أسمى وأشرف يستفيضون فيها النور الإلهي المخرج لهم من الظلمات إلى النور، ومن البهيمية إلى مخلوق ذي عقل وتمييز وإرادة، ومن الشيطانية إلى كائن ذي قلب خاشع مخبت منيب.
قالوا: لِم قدَّم الإيمان بالغيب عليها جميعا؟
قلت: إن في هذا العالم ما ينفعنا وما يضرنا، ونحن مجبولون على جلب المنافع ودفع المضار، ومن هذه المنافع والمضار ما هو مشاهد ملموس ندركه بأبصارنا وأسماعنا، ويشترك في جلبها ودفعها، والالتذاذ بها والتمتع، والتعذب بها والتوجع الحيوانات كلها، ومنها ما هو غيب عنا غير مدرك بحواسنا، وينفرد الإنسان من بين سائر الحيوانات بجلبها ودفعها والتنعم بها والتألم، فالمتقون الذين أنزل الله هذا الكتاب لهدايتهم ليس همّهم المشاهد الملموس، بل همُّهم الحقيقي الغيب الذي ليس بمشاهد ولا ملموس، وهنا يباينون غيرهم ظاهرين عليهم وسامكين سمكا.
قالوا: وددنا لو شرحت لنا معنى الإيمان بالغيب شرحا وافيا.
قلت: إن لنا مطالب ومبتغيات في الدنيا والآخرة لا نعلم منها إلا القليل ولا نقدر من هذا القليل إلا على القليل، ثم إن هناك أسبابا وقوى يتوقف عليها تحقيق هذه المطالب والمبتغيات لا نعلم منها إلا القليل ولا نقدر من هذا القليل إلا على القليل، فما لا نعلم من حاجاتنا أكثر بمرات وأخطر بدرجات مما نعلمه، وما لا نعلم من القوى والأسباب التي تحقق هذه الحاجات أكثر بمرات وأخطر بدرجات مما نعلمه. قلت: فعلمنا نزر يسير وغيض ضئيل إلى حد لايمكننا أن نعتمد عليه، وقدرتنا كليلة خائرة وساقطة واهية للغاية لا يمكننا أن نعول عليها، والإنسان إذا نقصه العلم والقدرة في الأمر وثق فيه بالحاذق الخبير والضليع البصير متكلا عليه، فإذا أردنا أن نشتري سيارة جاهلين بها صنعة وجودة استندنا إلى رأي المطلع المحنك المخلص، مقدميه على أنفسنا راكنين إليه ركونا.
قالوا: هل يصح الإيمان بالغيب لدى العقل قابلا له راضيا به؟
قلت: إي والله، فالإيمان بالغيب هو الفاصل بين الإنسان وبين سائر الحيوانات، والإنسان يعرف بعقله أن من الحقائق ما هو مستور عنه، ولا علم لديه بها، مع أن لها تأثيرا في حياته، فيؤمن بما لا يدركه البصر والسمع، بل يؤمن بما دل عليه عقله كأنه قد رآه بعينه وسمعه بأذنه، والإنسان إنما صار إنسانا بالعقل والتمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وبذلك بان فضله على سائر الحيوانات التي تشاركه في الإدراكات الحسية ولذائذها، وتفارقه في العقل والتمييز.
قالوا: أو ليس الكفار بني آدم؟ وهم لا يؤمنون بالغيب.
قلت: يشترك المسلمون والكفار في معرفة هذا الغيب، ولكن يختلفون في أن الكفار لا يعلمون هذا الغيب، ويرون أنه لا يعلمه أحد، بينما المسلمون يرون أنهم لا يعلمونه ولكن هناك من يعلمه، فالكفار أشبه – نتيجة – بالحيوانات، لأنهم يقتصرون على الإدراكات المحسوسة واللذائذ المحسوسة، قال الله تعالى: “والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم” (سورة محمد الآية 12)، وقال: “لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون” (سورة الأعراف الآية 179)، ويزيدهم الله عمى لأنهم عطلوا سبب الاهتداء فقال: “ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون” (سورة ايونس الآية 100).
قالوا: فمن يعلم مطالبنا ومبتغياتنا ويقدر على تحقيقها؟ ومن يعلم القوى والأسباب الموصلة إليها ويملكها؟
قلت: هو الله العليم القدير العزيز الحكيم الرؤوف الرحيم، إنه يعلم مطالبنا ومبتغياتنا بجميع تفاصيلها، ويقدر على تحقيقها، ويعلم الأسباب الموصلة إليها ويملكها، فيجب علينا أن نؤمن به في العلم بمطالبنا والقدرة عليها وفي العلم بأسبابها والقدرة عليها، فمعنى الذين يؤمنون بالغيب: أنهم يؤمنون بأن الله وحده يعلم جميع مطالبهم ويقدر عليها، وهي غيب لهم لايشاهدونها ولا يعلمونها ولا يقدرون عليها. فقوله “بالغيب” حال، أي إن المؤمن به ليس الغيب، بل المؤمن به هو الله، (ومن الإيمان بالله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر)، وأن المطالب وأسبابها غائبة عنهم. كما ورد “بالغيب” حالا في الآيات التالية: “وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون” (سورة الأنبياء الآية 48-49)، وقال: “إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير” (سورة فاطر 18)، وقال: “ليعلم أني لم أخنه بالغيب” (سورة يوسف 52).
قالوا: فهل الغيب مقصور على هذه الدنيا؟
قلت: لا، بل الغيب غيبان: الغيب المقصور على هذه الدنيا، والغيب الذي يتصل بالآخرة، فأما الغيب الأول فالكفار كذلك يؤمنون بوجوده، وأما الغيب الثاني، فإن الكفار لا يؤمنون بوجوده.
قالوا: وهل هناك دليل على الغيب الذي في الآخرة؟
قلت: نعم الدليل عليه هو الدليل نفسه على الآخرة،
قالوا: أبرزه لنا في كشف وجلاء،
قلت: سآتي عليه في مقال مفرد عن الآخرة إن شاء الله تعالى.