بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما تقول في المزاح؟
قلت: هو من المندوبات بل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان حقا مستطابا وخفيفا لطيفا، أخرج الترمذي عن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا! قال صلى الله عليه وسلم: لا أقول إلا حقاً، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قالوا: أخبرنا بأمثلة من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم فنفهم طريقته في المزاح حق الفهم،
قلت:
روى الترمذي في الشمائل أن عجوزا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلنى الجنة، فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال: فولت تبكى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز، إن الله يقول: إنا أنشاناهن إنشاء، فجعلناهن أبكاراً، عربا أتراباً”.
وأخرج الترمذي في الشمائل أيضًا عن أنس رضى الله عنه قال: استحمل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إنى حاملك على ولد ناقة، فقال الرجل: يا رسول الله، وما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق.
وأخرج الترمذي في الشمائل أيضًا عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طلحة رضي الله عنه فرأى ابنا له يكني ابا عمير حزيناً، قال أنس: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا راه مازحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالي أري أبا عمير حزيناً؟ قالوا : يارسول الله! مات نغره الذى كان يلعب به. قال أنس: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أبا عمير ما فعل النغير.
قالوا: كنا نظن المزاح نقيصة وعارا، وجعلته مندوبا وسنة، فهل سبقك إلى هذا القول أحد؟
قلت: ألا يكفيكم ما رويت لكم عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقد نص على سنيته وندبه غير واحد من العلماء، قال رجل لسفيان بن عيينة رحمه الله: المزاح هجنة! فقال: بل هو سنة، ولكن لمن يُحسنه ويضعه في موضعه، قال أبو فراس الحمداني:
أروح القلب ببعض الهزل
أبو فراس الحمداني
تجاهلا مني، بغير جهل!
أمزح فيه، مزح أهل الفضل
والمزح، أحيانًا، جلاء العقل
قالوا: بين لنا مواضعه.
قلت: المزاح تخفيف للروح وتنشيطه، ووسيلة للدعة والاستجمام، ولا يستعمل إلا كالملح في الطعام، ولا ينبغي أن يكون هوى أو شهوة، ويستحسن أن تعرف مواضعه:
منها: أن لا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين، واستخفاف بشعائره، قال تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) سورة التوبة 65-66، قال ابن تيمية رحمه الله: الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه.
ومنها أن لا يكون إلا صدقاً، فالإنسان الأصيل هو الذي يكون صافيا في جده وهزله، وفي رزانته ودعابته، لا غش فيه ولا تدليس، ولا مخاتلة فيه ولا تمويه، والسمت الحقيقي أن تتلاءم على الدوام مع الصادقين الصالحين، ففي سنن أبي داود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للذي يُحدث فيكذب ليُضحك به القوم ويل له، وفي مسند أحمد: قال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا.
ومنها أن لا يكون فيه أذى قولا أو فعلا أو تعريضًا، أخرج أبو داود عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل فأخذه ففزع، فقال رسول الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً، وإذا جر المزاح إلى أذى ذهب ماء الوجه بعد وضاءته، وأورث صاحبه بعد العز ذلا وهوانا، وفتح باب العداء والضغائن.
ومنها أن يكون المزاح خفيفا غير ثقيل، لطيفا غير سمج، ولبِقا غير طاغ على القيم الأخلاقية، فإن فرط المزاح جدير بتسفيه الحليم المسدد والحط من قدر الرزين الممجد، قال صلى الله عليه وسلم: لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استُخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، وقال سعد بن أبي وقاص: اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يُذهب البهاء، ويجرّئ عليك السفهاء، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: اتقوا المزاح، فإنه يذهب المروءة، قال أبو الفتح البستي:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة
أبو الفتح البستي
تجمّ وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
قالوا: استصعبنا الالتزام بهذه الشروط،
قلت: أصبتم، فإنه من الصعب جدا التزام الاعتدال والتوازن في أحاديث المجالس، فمن الناس من يستهتر في الطُّرف والدعابات، مستعملا الكلمات النابيات والعبارات المستهجنات، ويسهب فيها إسهابا في لغة أدبية وأسلوب ساحر، ومنهم من يبلغ إلى حد الإفحاش متعرضا لأمور تتعلق بالعورات والنساء، سلس الحديث، سابيا به النفوس، ودافعا لها إلى الإخلاد إلى اللذات والاستمتاع بمضحكات غير مرضيات، ومنهم من لا يخلو لسانه من جراح، ويسعى في تمزيق الأعراض على سبيل المزاح، عفا الله عنا جميعا، وآتانا شيئا من خوفه يعيننا على ترك الزهو وتذكر الموقف الرهيب يوم الحساب.
قلت: ويجب أن يسعى كل واحد منكم أن يكون شريفا نبيلا سامي النفس جادا في الأخلاق والفضائل، متجنبا الشطط في الدعابة اندفاعا في الخوض في اللغو والباطل، والتساوق مع جُلاَّس أو سُمَّار ذوي مناسبة في الخلائق ومشاكلة في الطبائع، ويعنى بالتوسع الذهني والتعمق العلمي والصلاح القلبي، فيكون عضوا نافعا متطورا في مجتمع صالح سليم.