بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: فسِّر لنا قوله تعالى “اقرأ باسم ربك الذي خلق” رافعا عنه التعمية والالتباس، فهو أول ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتضح لنا وجه أمره بالقراءة، وراجعنا كلام المؤولين فما زادتنا مناحيه إلا إيغالا في الخرق والغباء وإمعانا في احتجاب الحق عنا والخفاء.
قلت: هو مما زل الناس في فهمه من القرآن مزورِّين عن السداد والإصابة ازورارا، فمنهم من جعل القراءة عامة مطلقة، واستدل بها على خطر القراءة والعلم في الإسلام، ومنهم من جعل هذه الآية شعارا للمدارس والمعاهد العلمانية موحيا بأن الآية وردت في بيان فضل الفنون والمعارف التي يكتسبونها فيها إخلادا إلى الأرض واستمتاعا بحياتها الزائلة.
قالوا: ما خطؤهم؟
قلت: لا ريب أن الإسلام يولي القراءة والعلم عناية كبيرة في آيات من القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا القول الذي سألتموني عنه والذي أسيء فهمه واستعماله لا يمتُّ إلى ما زعمه هؤلاء وبنو جلدتهم بصلة ما، ولو أنهم تدبروه في سياق السورة بكاملها وفي سياق موقعها من القرآن الكريم وفي ضوء سبب نزولها لما ندَّ عنهم معناه ولما استعجم عليهم فحواه، فالقرآن الكريم كله بيِّن بيانا جليا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، وكونه مشكلا لغير المتدبر إياه ومشتبها عليه لا ينافي بيانه.
قالوا: حدثنا عن معناه مفصحا له إفصاحا لعل ذلك يفتح لنا بابا من العلم في تفقه أول سمة النبوة.
قلت: يتوقف فهمه على إدراك ثلاثة أمور،
قالوا: ما هي؟
قلت: الأول: شأن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزوله، فقد كان متبرما بالدنيا ومعرضا عنها إعراضا شديدا، وموجِّها وجهه إلى ربه ومستأنسا بذكره وإليه حنيفا، وقد ذكرت لكم في مقال سابق أن الإيمان بالله ربًّا وإلهًا فطري وعقلي، ونبينا صلى الله عليه وسلم على سَنَن سائر الأنبياء والمرسلين هدي إلى ربه بفطرته السليمة، وازداد به بصيرة بإعمال العقل والنظر والفكر، وعرفه معرفة قريبة قبل أن يوحى إليه، فخشيه وقنت له عالما به متحننا إليه أيما تحنن، واشتد شوقه وحبه لشكره وعبادته، تاركا إياه في اضطراب بالغ وقلق عجيب لا هدوء له ولا طمأنينة، وتضاعفت رغبته في العبادة متطلعا إلى معرفة طريقتها الصحيحة، وليس حوله من يعلِّمها ولا يهتدي إليها بعقله، فبدأ قبل النبوة التردد إلى غار حراء والتحنث فيه نوعا من التحنث، فاستجاب الله لشوقه راويا غلته وشافيا علته، وهداه إلى عبادته رحمة به كما رحم الناس بخلقهم وإنشائهم إنشاء.
الثاني: معنى القراءة، فالقراءة هنا ليست قراءة مجردة، ولكنها قراءة القرآن الكريم، أي اقرأ القرآن، ومن ثم جاء في السورة التالية: “إنا أنزلناه في ليلة القدر”، ولا مرجع للضمير إلا هذا المحذوف، وقد يطلق الجزء في الكلام ويراد به الكل، وهو أمر معروف في عامة ألسنة البشر، وكثر استعماله في القرآن الكريم، فالقيام والركوع والسجود والتسبيح أجزاء الصلاة، وأريدت الصلاة بكل واحد منها، كذلك قراءة القرآن ركن جليل من أركان الصلاة، أطلقه الله تعالى وأراد به الصلاة، أي إن الأمر الأول للنبي صلى الله عليه وسلم هو الصلاة، كما أن الأمر الأول لغيره من الأنبياء هي الصلاة والعبادة، فلما كلم الله موسى عليه السلام مصطفيا إياه بالنبوة قال له: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري”، ومثله في الجمع بين القراءة والصلاة قوله تعالى “أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة” يشير إلى التلاوة في الصلاة، ومثله ما في سورة المزمل: “يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا”، وقوله تعالى في موضع آخر: “والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة”.
الثالث: نظام السورة، أنعموا النظر في السورة بكاملها، ختمها بقوله “فاسجد واقترب”، أي صل، والصلاة تزلف وحضور، وكما أن صلاتك تشتمل على القراءة كذلك يجب أن تشتمل على السجود، ففي السجود قربة لي، ولما استجاب النبي صلى الله عليه وسلم لربه بأداء الصلاة عارضه صناديد قريش، فقال تعالى في السورة نفسها: “أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى”، ولم يسبق في السورة ذكر الصلاة إلا قوله “اقرأ”.
قلت: فتبين مما أوفيته شرحا أن هذا القول نزل على النبي صلى الله عليه وسلم استجابة لتشوقه للعبادة وانقطاعه إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس امتثالا لأمر ربه، فلو كان أمره بالقراءة لتعلَّم القراءة، ولكن الذي نعلمه أنه أول ما بدأ بعد النبوة هي الصلاة، وأهمَّ ذلك زعماء قريش وأفزعهم، فنهوه عنها وناوؤوه أشرس مناوأة.
قالوا: ما علاقة هذا الأمر بالخلق إذ قال: “اقرأ باسم ربك الذي خلق”؟
قلت: إن الخلق أثر عظيم من آثار رحمة الله، جارية أطواره على مسالك الرحمة، ، والشكر لهذه النعمة إقرار الفطرة التي فطر الناس عليها، والكفر نقض لها وإنكار، ولهذا كان التعبد والتحنث خيرا منسجما مع الوجود متوافقا معه، فكونه تعالى أكرم الكرماء وأرحم الراحمين يستلزم إنعامه أولا بالخلق وثانيا إعداده الإنسسان لأفضل النعم وهي قراءة القرآن متعبدا بها في الصلاة ومرتلا لآيه ترتيلا، فأمره بالصلاة والقيام بين يديه من جهتين: من جهة نعمة الخلق والإنشاء، وجهة نعمة التعليم والهداية.
قالوا: لماذا ربط القراءة باسم الرب؟
قلت: أول التعبد هو ذكر اسم الرب، ومثله قوله “وذكر اسم ربه فصلى”، وقوله “سبح اسم ربك الأعلى” وهو كذلك أمر بالصلاة بذكر اسمه تعالى.
قالوا: وهل جاءت قراءة القرآن هذا المجيء أي في معنى قراءته في الصلاة في مكان آخر؟
قلت: نعم، قوله تعالى “وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا”، فمعناه قراءة القرآن الكريم في صلاة الفجر، ومثله قوله “سنقرئك فلا تنسى” يلمع إلى إقرائه في الصلاة ويلوح إليه تلويحا، فإن الصلاة موقع معظم التلاوة، وما أقرب العبد إلى ربه وما أسماه إلى الدرجات العلى إذا قرن بينهما في خشوع وقنوت، ومثله “إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا” أي في الصلاة.
قالوا: وهل فهم منه النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الذي ذكرت.
قلت: لن يتوصل أحد إلى فهم معنى القائل على جهته ولا سيما إذا كان قوله من عالم آخر حتى يأنسه ويألفه، والوحي الأول كان غريبا مدهشا بل مخيفا مريعا للنبي صلى الله عليه وسلم، وخلال أيام زالت غرابته ودهشته، وأصبح يتطلع إلى الوحي، فلا شك أن معنى القراءة إنما بان له بعد أيام، ولما بان له هام بالصلاة هياما وصافاها عالقا بها ومولعا بها إيلاعا، وكانت الصلاة راحة له وقرة عين، لا يقر له قرار إلا بها، هانئا بها ومتنعما تنعما.