بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما أسمى مقام يُعزم علينا أن ننظر إليه متطلعين، ونطمح إليه مشتاقين؟ وما أشرف رتبة يتحتم علينا أن نتنافس فيها متبارين، ونتسابق لها متزاحمين؟
قلت: هذه مسألة جليلة، بل هي أجل مسألة تُهم الخلق أجمعين، غير باغين عنها حولا ولا رائمين لها بدلا، ولا بد أن نسعى جادين وكادين لنصيب جوابها، ثم نكدح مكافحين ومناضلين في سبيل نيلها واكتسابها، ولا نصبر ولا نتوانى حتى نظفر بذلك المقام العالي ونفوز بتلك الرتبة السنية.
قالوا: سرَّنا أن حسبت سؤالنا حسبانا، فإننا نخاف أن تستهزئ بأسئلتنا ساخرا منها وجاعلا لها حقيرة تافهة،
قلت: لقد أخطأتم في فهمي وإدراك منهجي في التدريس، لا أستهزئ بالسؤال ما وجدت من الاستهزاء بدا وعنه غنى، واعلموا أن الاستهزاء قد يكون أنجع طريق للتعليم وتثبيت الفكرة في العقول، وتوجد أمثلة لهذا الأسلوب في القرآن الكريم، قال تعالى: “ذق إنك أنت العزيز الكريم” (سورة الدخان الآية 49)، قال ابن كثير في تفسيره: أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ، وقال الضحّاك عن ابن عباس: أي لست بعزيز ولا كريم. وقال الطبري في تفسيره: فإن قال قائل: وكيف قيل وهو يهان بالعذاب الذي ذكره الله، ويذل بالعتل إلى سواء الجحيم: إنك أنت العزيز الكريم؟ قيل: إن قوله “إنك أنت العزيز الكريم” غير وصف من قائل ذلك له بالعزة والكرم، ولكنه تقريع منه له بما كان يصف به نفسه في الدنيا، وتوبيخ له بذلك على وجه الحكاية؛ لأنه كان في الدنيا يقول: إنك أنت العزيز الكريم، فقيل له في الآخرة، إذ عذب بما عذب به في النار: ذق هذا الهوان اليوم، فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم، وإنك أنت الذليل المهين، فأين الذي كنت تقول وتدعي من العز والكرم؟ هلا تمتنع من العذاب بعزتك.
قالوا: نشكرك على سعيك في تعليمنا وتربيتنا واحتمالك الأذى في سبيل الإفادة والنفع، وعدم انزعاجك من غير المهذبين أمثالنا، وترحيبك باستفساراتنا، فأجبنا على سؤالنا الذي قدرته تقديرا.
قلت: إن المقام الذي سألتم عنه ليس بكسب مال، ولا ادخار ثروة، ولا استكثار من ذهب وفضة، ولا تمادٍ في متع الحياة وملهيات اللذات، إنه مقام ينوء بأمثال قارون ومن حذا حذوه من سائر الأغنياء والأثرياء ومحبي المال والمتفانين في سبيله عبر العصور ومدى القرون.
وليس بوصول إلى سلطة أو تغلب على بلد أو انتصار على أعادٍ، أو تثبيت ملك موطود العماد، فما أعجز الفراعنة والنماردة وأصحاب التيجان الضائمين وأئمة الضلال والغي من قادة الإمبراطوريات الرومية والفارسية والبيزنطية والأوربية والروسية والأمريكية عنه، بل إن سلطانها المادي من العقبات والعراقيل دون بلوغه.
وليس بسياحة بلد ومشاهدة للآثار الطبيعية من الجبال والأنهار والأشجار والحيوانات، وزيارة للمعالم البشرية والقصور والمحلات، ولا افتتان بجمال ساحر أو حسن فاتن، وأنى لأمثال قيس العامري وفرهاد الفارسي أن يحلما به وحتى في مناماتهم ورؤاهم، وما ليلى وشيرين إلا مما يأباه هذا المقام وينفر منه نفورا.
وليس بإنشاء مقال يتحدى به عبد الحميد أو ابن العميد، أو إنتاج كتاب يوازي صحيحي ابن إسماعيل والقشيري، أو كتب سيبويه وأبي نصر وأبي علي، وليس ببناء مسجد، أو تأسيس مدرسة، أو تطوير مركز ديني، أو إمارة جماعة دينية، أو تولي شؤون إسلامية، إنه مقام يعلو أماني العاشقين للمناصب والوظائف.
وما هو بحصول على طريق في الرواية عال، أو اكتشاف إسناد غريب، أو تركيب حديث مسلسل، أو استكثار من الشيوخ، أو رحلة إلى البلدان في سبيل العلم، أو عقد مجالس للسماع والقراءة، أو تنميق ورقات بكلمات استدعاء واستجازة.
قلت: إن ذلك المقام العالي ليس شيئا مما مضى، أو يماثل ويقارب ما سلف، إنه مقام يشق على ناطحي السحاب تجشمه، ويصعب على ساري النجوم صعوده، إنه مقام لا يطمح إليه إلا الأنبياء والمرسلون، والملائكة المطهرون، والأولياء الصالحون، والعلماء المتقون.
قالوا: الناس يتقاتلون من أجل المال، والجمال، والسلطان، فإذا كان ما ذكرت أعلى من كل ذلك فلا شك أن النفوس تضحى والدماء تهراق والبلاد تخرب دونه.
قلت: هو أعز وأسمق من أن يعيه الأقزام الممتهنون والأوغاد المحتقرون فيتحاربوا إحرازا له، وهو مقام لا يضيق عن البشرية جمعاء، ولو أن الإنس والجن كلهم تبوأوه لتبوأوه في أمن وسلام، من دون مشاكسة ولا خصام، وغير مدافعة ولا شتام.
قالوا: قد أتعبت أفكارنا جائلا بها كل مجال وحاملا لها كل احتمال،
قلت: هو مقام ينبغي أن تتعنوا في معرفته مرهقين، فالمقاساة والمعاناة في استكشاف ذلك المقام مقام أشرف من كل ما سميتُ وجميع ما نعتُّ، ولن يستثقل كلامي من عز عليه مطلبه وشرفت لديه بغيته، وأحب الكلام إلى العباد ما ينال به أكرم المطالب أو يقربه إليه تقريبا.
قالوا: هل تتحدث عن مقام موجود، أو موهوم، أو معدوم؟
قلت: هو مقام موجود، ولكنه موهوم للغافلين المتكاسلين والمتبلدين المتثاقلين، ومعدوم لضعاف العقول والمدارك وفاقدي الهمم والمطامح.
قالوا: قد ذهب عنا صبرنا معك منذ اليوم، فأجبنا عن سؤالنا إن كنت من العالمين ولعباد الله من الناصحين،
قلت: هو جوار رب العالمين والتقرب منه في جنات النعيم، وهو مقصد الأنبياء والمرسلين، ومراد عباد الله الصالحين، وهو المقام الذي سألته امرأة فرعون، إذ أعرضت عنه وعن قصوره وشرفاته وسلطته وسطواته، ورغبت في جوار ربها ونعيمه، وآلائه وجناته، فجعل الله دعوتها مثالا للمؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين.
قالوا: كيف السبيل إلى التقرب من الله تعالى؟
قلت: هو الإيمان به وعبادته وإطاعته ابتغاء رضوانه، واعلموا أن الدنيا بحذافيرها بما فيها من الزينة والعجائب لا تساوي شيئا من هذا المقام العالي، فآثروه عليها، وتوجهوا إلى الذي فطر السماوات والأرض حنفاء غير مشركين به شيئا، وأسلموا له مخبتين.
قالوا: قد بينت لنا هذا المقام بيانا شافيا،
قلت: لا تسمُّوه مقاما، فالحنفاء إلى الله المتوجهون إليه لا يعرفون مقاما، ولا يألفون استراحة، بل هم في حركة دائبة وعمل مستمر ازديادا من التزلف، وما أعيا الحادين عن حده، وما أعجز الواصفين عن وصفه، فالمقربون من أبعد الناس عن القيام والقعود والاستراحة والوقوف، وما من رتبة إلا وفوقها رُتَب، وما من درجة إلا ووراءها درجات، فتسابقوا أيها المتسابقون، وتنافسوا أيها المتنافسون.