أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين

Reading Time: 11 minutes

بقلم: محمد أكرم الندوي

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد شهدتُ في الهند وأخيرًا في بريطانيا اتجاهًا سلبيًّا بين كثير من الشباب المتدينين، والعلماء المتهورين، من أتباع المذاهب الفقهية، ومن غيرهم، وهو ضيق نطاق فكرهم، وحصرهم الحق في داخل مدرستهم، ومنهج شيوخهم وأساتذتهم، وعدم توسع مداركهم لأي اختلاف علمي أو فكري أو منهجي، وربما يؤدي الأمر ببعضهم إلى رمي من اختلف عنهم في الرأي بالفسق والبدعة بل والشرك والكفر، والسباب وإفحاش القول، كما شهدنا في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي نشوء حركات شعبية متحمسة ودعايات سياسية وحزبية قوية ضد المذاهب الفقهية المعمول بها في الجماهير المطبقة للكتاب والسنة، وبالتالي تُحدِث رد فعل وحركة مقاومة ليست في صالح الأمة في عصر وبيئة كثرت فيها التحديات والهجمات والأخطار والمؤامرات ضد الوجود الإسلامي، وشرائع الإسلام ومشخصاته.

لا يعني ذلك أننا نمنع من الدراسة المقارنة وعرض المذاهب الفقهية على الحديث، والبحث عن دليلها ومؤيداتها في دواوين السنة وكتب الحديث المعتمد عليها، ولكن نحث على أن تتقيد التحقيقات العلمية والاختلافات الفقهية بالآداب الإسلامية التي تميز بها سلفنا الصالح.

وما أحسن ما يقوله شيخنا الإمام أبو الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى في وصيته لطلاب العلم: “يحترز بقدر الإمكان عن الهجوم بعنف وقسوة على مذهب من المذاهب الفقهية، المعمول به من قديم الزمان، والمؤسس على استخراج الأحكام واستنباط الآراء والقضايا من الكتاب والسنة – على اختلاف في الاجتهاد والمعايير – بحسن النية والإخلاص، والورع والتقوى، وإجلال الكتاب والسنة، وإحلالهما المحل الأول، وما كتب الله له من الشيوع والانتشار، والقبول والإقبال، فيكون ذلك جهادًا في غير جهاد، ونضالاً في غير عدو”. (المدخل إلى دراسات الحديث النبوي الشريف ص 85-87.)

وقد ألف العلماء قديمًا وحديثًا في الاختلاف حدوده وآدابه، ومن أحسن ما أُلف في هذا الباب: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) للإمام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكتاب (الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف) للإمام الشيخ أحمد بن عبد الرحيم المعروف بولي الله الدهلوي رحمه الله، ولعل أجمع شيء في هذا الموضوع، وأنفعه لعامة العلماء وطلبة العلم في عصرنا هذا هو الكتاب الذي أنوي عرضه في هذه الصفحات القليلة.

شيخنا العلامة الحافظ محمد محمد عوامة من كبار علماء هذا العصر لاسيما في مجال الحديث النبوي الشريف، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته القيمة، وتحقيقاته العلمية لمصادر الحديث النبوي الشريف، ومن أهم آثاره: (السنن)، للإمام أبي داود، حققه وعلق عليه وقابله بأصل الحافظ ابن حجر وسبعة أصول أخرى، و(تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر، مع حاشيتي العلامة عبد الله البصري وتلميذه الميرغني، مقابلة بأصول مؤلفيها الثلاثة، و(الكاشف) للذهبي، وعليه حاشية سبط ابن العجمي، عن أصل المؤلِّفَيْنِ، مع مقدمات وافية ودراسة نقدية لكثير من تراجمه، و(المصنف) لابن أبي شيبة، حققه وقابله بعدة مخطوطات وخرج أحاديثه وقَوَّم نصوصه، وبقي في عمله ستة عشر عاماً، و(أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم)، و(أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين)، ويعتبر بصدق علمًا من أعلام التحقيق.
وقد أثنى عليه وعلى آثاره العلمية كبار علماء هذا العصر، قال عنه العلامة محمد سعيد الطنطاوي: لا أعلم على وجه الأرض أعلم منه في علم التحقيق.

وقال شيخ كثير من مشايخنا مولانا محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله تعالى في كلمته عن كتاب (أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم): “واستفدت منها فابتهج روحي، وفرح بها قلبي، وهي حرية بأن يطالعها كل مدرس وطالب، فإنها مجنبة عن الزيغ والطغيان، ومنجية عما يقع في شأن الأئمة من أهل العدوان، وأصحاب الحرمان”. (ص 13-14)


وقال الفقيه الكبير العلامة مصطفى أحمد الزرقاء في تقديمه للكتاب نفسه: “فقد اطلعت على كتاب (أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء) للأستاذ الجليل الشيخ محمد عوامة، فوجدته كتابًا جليل القدر كمؤلفه حفظه الله” إلى أن قال: “وقد أعجبتني غزارة مادة الكتاب وما تدل عليه سعة اطلاع مؤلفه، وعمق فهمه وحسن تنسيقه، حتى اجتمع له في هذا الكتاب على لطف حجمه ما يندر أن يجده الباحث في الكتب الكثيرة” إلى أن قال: “وزاد من إعجابي بالكتاب أن مؤلفه متمكن من السنة النبوية ورجالها، وقد حقق قبلاً (تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر، و(الكاشف) للإمام الذهبي، وسواهما، وهو يبني بكتابه هذا جسرًا بين علمي الرواية والدراية: رواية الحديث وفقهه”. (ص 15-16)

وقال شيخنا العلامة عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى بعد مطالعته للكتاب نفسه: “استفدت منه فوائد غالية، ودعوت لمؤلفه باطراد التوفيق، وازدياد التحليق، لرد الشاذين عن مهيع الطريق، بدعوة الداعين إلى التشويش على الأئمة المتبوعين، والمجهلين لهم، والقائمين في جسم الأمة بالتمزيق”. (ص 19)

إن كتاب شيخنا هذا (أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين) مجهود ضئيل الحجم، ولكنه كبير القيمة وعظيم القدر، ومفتاح للمحبة والوفاق في أوضاع وظروف حرجة مزقت الأمة تمزيقًا، وفرقتها طوائف وفرقًا شتى، ودليل على جرأة الشيخ الرشيدة، إذ الكتاب صيحة قوية عالية جريئة وصادقة على قلة الأدب التي منيت بها طوائف من المتعلمين، بل والعلماء والباحثين، وقد استفدت أنا شخصيًّا من هذا الكتاب كثيرًا في إلزام نفسي التأدب بتلك النماذج العالية للسلف الصالح في الاختلاف، كما استفدت منه في محاضراتي وجهودي في التقريب بين المختلِفين، وقد رأيت آثار بركة الكتاب ونفعه واضحة.

ومنهج الشيخ في الكتاب منهج علمي، يشرح كل جانب من المسئلة شرحًا وافيًا معتمدًا على نصوص الأئمة السابقين، ونقول العلماء المحقيقين، مع سرد القصص من واقع السلف ربطًا للفكرة بالعمل والتطبيق، وبيانًا للأمثلة والنماذج فإنها أوقع في النفوس، ولا ينتقل من مسئلة إلى أخرى إلا بعد أن أشبعها بسطًا وتفصيلاً وشرحًا وبيانًا.

يقول الشيخ وهو يعرّف بالحاجة إلى الكتاب: إن الحاجة إلى “أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين” من الأمور التي جدّت في ظهورها، وبرزت على ساحة الواقع من خلال سنوات قليلة مضت، وما كنا نرى لها حاجة ماسة كما نراها اليوم.

فلذا أصبحت معالجته والكتابة فيه أمرًا حتميًّا.

فنحن في عصر تفاقم فيه الاختلاف تفاقمًا كبيرًا جدًّا، حتى إن المتحدث منا في أي مسألة من مسائل العلم لا يعدم مخالفًا له، أو ناقدًا، أو ناقمًا، أو واضعًا اسم المتحدث في (ملف) صنّف فيه الناس أصنافًا، ووصم كل واحد منهم بوصمة تجريح وتشريح.

ولقد نتج عن هذا التفاقم الذي وصفته، انحراف متفاقم مثله في الخط الأدبي اللازم لطالب العلم أن يتحلى به، فصار الاختلاف خلافًا وشقاقًا.

وإذا كان الحال كما وصفتُ: فإن الواجب على من أكرمه الله تعالى بأن يمسك قلمًا يخطُّ به كلمة خير تكون له ذخرًا في آخرته أن يسهم في هذا الصدد، فيعالج مبنلىً، أو يرشد مستفهمًا، وأن ينير الدرب للسائرين، بنماذج من أدب اختلاف العلماء السالفين، رضي الله عنهم أجمعين. (أدب الاختلاف 5-6)

يعالج الكتاب أربعة جوانب من الموضوع، ويتناول الجانب الأول وهو (الاختلاف) تعريف الاختلاف والفرق بينه وبين الخلاف، ومجالات الاختلاف، وأسباب الاختلاف، وحكم الاختلاف في الفروع، وشروط الاختلاف المشروع.

يبدأ دراسة هذا الجانب بتقديم تعريف للاختلاف قدمه الإمام الراغب الأصفهاني: “الاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد كريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله”، ثم ينتقل إلى بيان الفرق بين الاختلاف والخلاف قائلاً: “وأوضح الفرق بينهما أبو البقاء الكفوي رحمه الله في (كلياته) من أربعة وجوه، فقال: 1- الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفًا، والمقصود واحدًا، والخلاف هو أن يكون كلاهما – أي الطريق والمقصود – مختلفًا. 2- والاختلاف ما يستند إلى دليل، والخلاف ما لا يستند إلى دليل. 3- والاختلاف من آثار الرحمة ..، والخلاف من آثار البدعة. 4- لو حكم القاضي بالخلاف، ورُفع لغيره، يجوز فسخه، بخلاف الاختلاف، فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع”.

وأسهب الشيخ في مسألة الاختلاف في الفروع وحكمه، وشروط الاختلاف المشروع، وذكر شرطين: أولهما يتصل بموضع الاختلاف، والثاني يتصل بالقائل، أما الأول فهو الذي يعبّر عنه الأصوليون بمسألة: المجتهد فيه ما هو؟ أي الموضع الذي يجوز فيه الاجتهاد، وإذا وجد الاجتهاد وجد الاختلاف غالبًا، وبهذا يتفق الأصوليون والفقهاء على أن محل الاجتهاد – أو المجتهد فيه – هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، فإن مخالفة القطعي إثم، وقد يكون بدعة، بل وكفرًا.


وأما الشرط الثاني، وهو ما يتعلق بالمخالف: فشرطه الأهلية، وقسم الشيخ الأهلية إلى التأهل علمًا، والتأهل ديانة وصلاحًا، أما التأهل علمًا فلا بد لمن أراد التكلم في مسائل العلم من اطلاعه العام الإجمالي على أحكام الكتاب العزيز، وكثير من السنة المطهرة، ومسائل الإجماع، ودراسة موسعة لمصادر التشريع الأخرى: القياس، والاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والاحتجاج بمذهب الصحابي، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع، وأبواب علم الأصول الأخرى، ومعرفة ودربة على علوم الحديث عامة، والجرح والتعديل خاصة، إلى تمكن إجمالي من علوم العربية: اللغة، والنحو، والصرف، وعلوم البلاغة.

والنوع الثاني هو التأهل ديانة وصلاحًا، وأما أن يتكلم في العلم والدين مغموص عليه في دينه، ومعروف بالسخف والخلاعة في مذهبه، فهذا يجب أن يُحجر عليه من قبل الحاكم المسلم، كما قاله الأئمة الفقهاء,

ويتناول الجانب الثاني وهو (الأدب) تعريف الأدب ومعناه العام، وأهميته ومكانته، وشروط أدب الاختلاف، والأدب في الاختلاف، ونماذج من واقع الأئمة.

نقل في أهمية الأدب عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: قال لي أبي: يا بنيَّ ائت الفقهاء والعلماء وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذلك أحب إلي من كثير من الحديث. ونقل عن الإمام مالك أنه قال لفتى من قريش: يا ابن أخي تعلّم الأدب قبل أن تتعلم العلم. وقال أبو زكريا العنبري: علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسم. وذكر محمد بن الحسن الشيباني عن أبي حنيفة قال: الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إلي من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم وأخلاقهم، قال محمد: ومثل ذلك ما روي عن إبراهيم النخعي قال: كنا نأتي مسروقًا، فنتعلم من هديه ودله.

وشرط الأدب ليكون أدبًا إسلاميًّا محمودًا أن يكون الاختلاف من الاختلاف المشروع في فروع الدين لا في أصوله، وأن يكون هذا المخالف متأهلا لمقام هذا الاختلاف، فحينئذ يلزمنا التأدب مع هذا الاختلاف واعتباره بكل وجوه الاعتبار، ثم أتى الشيخ بشواهد من واقع الأئمة على هذا الأدب في الاختلاف:
ألف الإمام أبو حنيفة رحمه الله كتابًا في السير، فلما وقف عليه الإمام الأوزاعي لم يعجبه، فكتب كتابًا في السير، وردَّ فيه على ما لم يوافقه من كتاب أبي حنيفة، فوقف أبو يوسف على كتاب الأوزاعي، فكتب ردًّا عليه. ثم إن الإمام الشافعي وقف على كتاب أبي يوسف فعمل كتابًا مستقلا في السير، وردَّ فيه على بعض ما في كتاب أبي يوسف، وهو مطبوع ضمن كتابه (الأم).

وما كان ليعكّر صفو ما بين أحدهم على الآخر، إلا ما كان من الإمام الأوزاعي تجاه الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهما، ثم آل الأمر إلى ما يليق بحكمة الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه في القصة التي رواها الخطيب في تاريخه:

قال ابن المبارك: قدمت الشام على الأوزاعي، فرأيته ببيروت، فقال لي: يا خراسانيُّ من هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة يكنى أبا حنيفة؟ فرجعت إلى بيتي فأقبلت على كتب أبي حنيفة فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل، وبقيت في ذلك ثلاثة أيام، فجئت يوم الثالث، وهو – أي الأوزاعي – مؤذن مسجدهم وإمامهم، والكتاب في يدي، فقال: أي شيء هذا الكتاب؟ فناولته، فنظر في مسألة وقّعت عليها: قاله النعمان. فما زال قائمًا بعد ما أذّن حتى قرأ صدرًا من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كمه، ثم أقام وصلى، ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليها، فقال لي: يا خراساني من النعمان بن ثابت هذا؟ قلت: شيخ لقيته بالعراق، فقال: هذا نبيل من المشايخ، اذهب فاستكثر منه، قلت: هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه.

ومن روائع أدب الاختلاف ما حكاه الذهبي في ترجمة يونس بن عبد الأعلى الصجفي، قال: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة.

ومن المأثور أن هارون الرشيد احتجم، فاستفتى مالكًا، فأفتاه بأنه لا وضوء عليه، فصلى خلفه أبو يوسف، فقيل لأبي يوسف: أتُصلي خلفه؟ فقال: سبحان الله، أمير المؤمنين، فإن ترك الصلاة خلف الأئمة لمثل ذلك من شعائر أهل البدع، كالرافضة والمعتزلة.

وسئل الإمام أحمد عن مثل هذا، فأفتى بوجوب الوضوء، فقال له السائل: فإن كان الإمام لا يتوضأ، أصلي خلفه؟ فقال: سبحان الله، ألا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك بن أنس؟

وحكى الذهبي في ترجمة عغان بن مسلم: قال الفلاّس: رأيت يحيى القطان يومًا حدّث بحديث، فقال له عفان: ليس هو هكذا، فلما كان من الغد أتيت يحيى، فقال: هو كما قال عفان، ولقد سألت الله أن لا يكون عندي على خلاف ما قال عفان.

ثم قال الذهبي: هكذا كان العلماء، فانظر يا مسكين كيف أنت عنهم بمعزل.

ويتناول الجانب الثالث وهو (بعض شبهات ترد على ما تقدم والجواب عنها) شبهة على كون الاختلاف رحمة وتوسعة، وشبهة على قولهم مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب، وشبهة على ضرورة التزام الأدب مع الأئمة مع ما ورد عنهم من كلمات نابية في بعضهم البعض.
وقد عالج الشيخ الشبهات الثلاث علاجًا كافيًا، وكشف عنها ببيان شاف.

ويتناول الجانب الرابع (قوارب النجاة وسبل الخلاص من الواقع المؤلم) منهج السلف في التعلم والتعليم والعمل.

يبدأ الشيخ حفظه الله تعالى هذا الفصل بكلام جميل يصف الداء الذي ابتلي به كثيرون في عصرنا، ثم يصف الدواء له، يقول:

إن واقعنا المنحرف عن خط سلفنا وأئمتنا مؤلم جدا، ولا يخفى ذلك على أحد تصل يده إلى كتاب، أو يدخل مكتبة من مكتبات الأسواق، لأنه بمجرد دخوله يرى العناوين الكثيرة للكتب التي فيها الردود بحق أو باطل، بأدب أو بقلة أدب. وربما وجد في الكتيِّب الواحد ثلبًا لأعداد هائلة من العلماء.
وأقبح من هذا أنك ترى من لا يسوغ له شرعًا أن يخط كلمة في دين الله تعالى، يردّ على الإمام الفلاني، ويقوّم عقيدة العالم الفلاني.

ولو أن إنسانًا متفرغًا قام بإحصاء ما هو موجود في المكتبات من هذا القبيل، منذ عشر سنوات إلى يومنا هذا، لجمع رُكامًا يفرح به أعداء الله والإسلام من المستشرقين والمستغربين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وسبيل خلاصنا من هذا الواقع موجز بكلمة واحدة، يستوعب شرحها مجلدات، هي: العودة بنا إلى ما كان عليه سلفنا الصالح في العلم والعمل، وفي شرحها شرح لمنهج علماء الإسلام في التعلم، والتعليم، والعمل.
وختم الشيخ كتابه القيم بوصيتين تستحقان أن تكتبا بماء الذهب:
أولاهما: أن من واجب المختلفين أن يتحلّوا بآداب السلف في اختلافهم، فإذا فُرض أن أحدهم خرج عن جادة الأدب، وجب على الآخر أن يبقى ملتزمًا به، محتفظًا بخلقه الإسلامي، وحشمته العلمية، متصونًا عن مجاراة السفهاء، وإن رأى أن المصلحة تقتضي منه بيان الحق الذي هو عليه، أبان عن ذلك برد علمي متّزن، وإلا سكت.

ثانيتهما: أن على المختلفين أن يقصدوا في كتاباتهم إحقاق الحق، وتبيينه، ونصرته، فإذا تكلموا أو كتبوا كان الحق رائدهم، دون تشهير بفلان وفلان، وسخرية بآخر ومدرسته، فالعالم الصادق لا يقصد الحط من شخص، إنما يقصد هدم فكرة باطلة، أو مبدأ منحرف عن جادة الإسلام.

هذا استعراض عاجل لأهم مباحث الكتاب، يعطي فكرة عن اهتمام صاحبه بما ينقص كثيرًا من المسلمين من حسن السلوك والتأدب تجاه بعضهم البعض في المسائل الاختلافية، ولأؤكد مرة أخرى أن الكتاب لا يرمي إلى القضاء على اختلاف الآراء والمذاهب، ولكن يهدف إلى إقصاء الخلاف البغيض الذي يجر إلى الشقاق والعداء، والعصبية الجاهلية التي تبخس فيها الحقوق، وتهتك فيها الأعراض، وتستباح الحرمات، فقد اختلف السلف بعضهم عن بعض، ووافقوا، وردوا وأيدوا، وزادوا ونقصوا، وكل ذلك بدليل وبرهان، وفي أدب واحترام، وفيهم الأسوة.

ولا يريد الشيخ من كتابه هذا المعرفة الذهنية فقط، ولا الثقافة العقلية النظرية، ولكنه يريد من القارئ أن ينتقل به إلى الحركة العملية الواقعية، وإلى الزيادة من العلم والمعرفة، والعمل الصالح والتقوى، والتأدب بأدب الإسلام، والتأسي بالسلف الصالح، فبارك الله في جهود الشيخ، وجزاه خيرًا، ووفقنا إلى التحلي بما دعا إليه من الخلق الإسلامي النبيل والأدب الديني الرفيع.