بقلم: محمد أكرم الندوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: ما معنى قوله تعالى “وكلم الله موسى تكليما” وقوله “يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي”، وقول آدم عليه السلام “أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه” وما جاء في حديث الشفاعة الكبرى “فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس”؟
قلت: هو ما هو، نصٌّ على فضل موسى عليه السلام على سائر خلقه.
قالوا: فما هذا الذي وشى إلينا الوشاة بك زاعما أنك كليم الله؟
قلت: لن أنفيه ولن أنكره إنكارا،
قالوا: سمعناك تعيب على الصوفية شطحاتهم ودعاويهم الفارغة، وأحوالهم ومقاماتهم التي ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، وتثلب من يزعم أنه مهدي منتظر مستقبحًا قوله استقباحا في تعنيف كبير وتسفيه، وها أنت انتحلت قولا أشنع من أقوال من طعنت فيهم، ويا له من قول مستهجن بشع! أنبتَ بلدُك محمدا المهدي الجونفوري في سالف الزمان، ولعلك استرقتَ حشوك من بلديِّك، فالطبائع تتسارق؟
قلت: لم أستفده من أحد، وأبيت أن أقلد الناس تقليدا أعمى، وأحكي السخيف الرديء من دون أن أسمع أو أرى.
قالوا: فما الذي حملك على هذه الدعوى التي استفظعناها منك استفظاعا، وقد عهدناك أبعد الناس عن الدعاوي وأكرههم للمستحدثات، حاثًّا على اتباع السنن، ومحذِّرا من البدع؟ يا ليتك لم تُقْدِم على مثل هذا الكلام العقيم المُشاكل للترهات والأباطيل، فقد فتحت بابا للجهلة السفلة ينفذون منه للنيل منك والتشهير بك ورميك بسهام من السب والشتم، وأنت علينا عزيز غال.
قلت: إياكم وأن تكترثوا بأقاويل الناس أو ترفعوا لها رؤوسا، فلن تسلموا من ألسنتهم ولن تنجوا من سهامهم وأسنتهم، ومن أنتم وقد أوذي أنبياء الله ورسله عليهم الصلوات والتسليم، وسائر الصالحين الأخيار، فمن فاتته الجماعة من عذر رموه بالفسق والفجور، وإن رأوا الرجل يقوم الليل اتهموه بالسمعة والرياء، وعابوا المقسط في الإنفاق بالشح والبخل، والسخي الجواد بالإسراف والتبذير، والشريف العزيز بالصلف والاستكبار، والسليم المتواضع بالذل والمسكنة، والمعاشر للناس المخالط لهم بطلب الرئاسة والجاه، والخامل المنزوي بالجبن والخور.
قلت: وليكن همكم إرضاء ربكم غير مبتغين عنه بدلا، وهو الذي يقبل القليل ويُنميه، ويرى الخطأ فيخفيه، ما أروع مناجاة ربنا! وما أرفع معيته!، قالوا: قد وعينا عنك ما تقول، وسنجاهد أن لا نعبد الله إلا ابتغاء مرضاته غير مشركين به شيئا.
قالوا: لنعد إلى سؤالنا، فاشرح لنا ما تعني بقولك إنك كليم الله؟
قلت: ألم يقل الله تعالى “ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم”؟ ألم تعلموا أن العبد إذا قال في صلاته: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل؟ أوَ عزُب عنكم أن العبد يقرأ كتاب الله وهو يكلمه تكليما. وقلتُ: لا غرابة فيما
قلتُ، فالخلق كله يكلم ربه ويناجيه مناجاة، السماوات والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والشجر والحجر كلها في كلام مع ربها، ولكن لا تفقهون كلامها.
قالوا: فما الذي دعاك إلى تحصيل حاصل أو ترديد ما هو ظاهر معلوم؟ قلت: ثلاثة أمور:
1- لأراقبه: أراه ويراني، فأعبده محسنا، وأطيعه مخبتا إليه منيبا، وأخافه وأستحيي منه، فلا أعصيه.
2- ولأستحضر قربه إلي و قربي إليه، فأوقن باستجابته إذا دعوته، فإنه القائل: “إذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان”، و”أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء”.
3- ولأستمع إليه فإنني في كلام معه دائم، مستفهما إياه متدبرا، وملتذا به ناعما، وما أكرم العباد يكلمهم ربهم! وما أسماهم وأعلاهم شأنا!
قالوا: قد وعينا عنك ما قلت غير مخطئين مرادك، إلا هذا الثالث الأخير، فقد اشتبه علينا وأشكل إشكالا.
قلت: إذا سرحتُ بصري قال لي ربي: انظر إلى الأنعام وسائر الحيوانات الماشيات كيف خُلقن وسُخّرن لبني آدم تسخيرا، وإلى السماوات العلا كيف رُفعن وما زانهن من الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وإلى الجبال كيف نُصبت والهضبات والمرتفعات، واستوحِ من سكوتها واستنطقها استنطاقا، وإلى أرض السماحة والندى كيف سُطحت فكانت للأنام مهادا وبساطا، وإلى الأزهار والورود كيف انفتحت وفاحت بطيب روائحها وفاتن ألوانها، وإلى الرياض ونسيمها وشذاها، وإلى البحار والأنهار وأناشيدها وترانيمها، وإلى السحاب الذي يسبح سبحا ويعرض بِسنا برقه فيجود على البراري والصحارى والقفار ويسقي الحدائق والجنان والمزارع والحقول، ويُغيث الخلق بزلال الماء، ما أعذبه وأصفاه! ارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ولا تجهلن، وهل يجهل ذو الناظرين تلك الآلاء، وينكر هذا الضياء؟. وإذا رجعت إلى نفسي قال لي: انظر إلى عقلك كيف صنعتُه وأبدعتُه، وإلى فكرك كيف نزَّهتُه ورفعتُه، وإلى قلبك كيف يتمكن منه ما يتمكن من الحب والهوى والكراهية والعداء، وكيف يأنس بالدموع والدماء، وإلى خاطرك كيف استودعته بديع الخيال، وإلى لسانك الذي استنطقته الكلام المعجز، وإلى القلم الذي بيمينك كيف حركته ومنحته البيان، وإلى سعيك مختلفا إلى الخير والشر تحت مشيئة وقضاء، وما كل أيامك سواء، وإلى صواعق العزمات فيك والآراء، وحسن فعلك والرواء، وأياد منك في الخلق بيضاء، وانظر إلى الدول كيف تتنقل أيامهن في الورى تنقل الظلال والأفياء، وأيام بؤس في الدهر وشقاء، وأيام مسرة ورخاء، وانظر إلى قبور المترفين ساكنا فيها البلى، وقد كانوا قبلُ أهلَ بهاء، وخُلقتَ لإحدى الغايتين فلاتنم وكن بين خوف منهما ورجاء. وإذا حان وقت الصلاة دعاني ربي إلى الفلاح ونهاني أن أجعلها مكاء وتصدية، وإذا جاء شهر رمضان حثني على تكسب البركات قائلا: من حرمها فقد حرم الخير كله، وكل نعمة منه تستوجب شكره، فإذا شكرته، قال: رضيت عنك وزدتُك، وإذا أصابتني مصيبة وصبرتُ لأجله قال: لا تحزن إني معك، وإذا كان شطر الليل قال هل من سائل فأعطيه، وهل من داع فأستجيب له، وإذاتكبرت لم يهلكني ببطري وغمطي للحق، بل قال: أَقْصر وتب، وإذا اقترفت إثما أو ارتكبت ذنبا قال: استغفر أغفر لك، وتب أتب عليك، وإذا تواضعت قال لي: ادن مني أرحمك، وإذا تضرعت إليه قال: أجبت دعوتك، وقد تبدَّأ منعما علي، وهو كريم سبق كرمُه سؤالي.
قالوا: فما الفرق بين كلام الله إيانا وكلامه موسى عليه السلام، وبين سماعنا لهذا الكلام وسماع موسى عليه السلام له،
قلت: الفرق كبير، فثمة كلام فوق كلام وسماع دون سماع، إن كلامه موسى عليه السلام أعلى من كلامه إيانا، كما أن كلامه ملائكته المقربين أعلى من كلامه موسى عليه السلام، وإن سماعنا له دون سماع موسى عليه السلام، وإن سماع موسى دون سماع الملائكة المقربين.
قالوا: لقد كشفت لنا الحجاب عن ربنا تبارك وتعالى، وقرَّبته إلينا تقريبا، وإن كلامَك هذا ليفوق المجلدات المؤلفة في العقائد والكلام،
قلت: إياكم وهذه الكتب المصطنعة المولَّدة المُفتِّرة للعقول والأفكار، والنامَّة عن عِي في أصحابها وعجمة ولكن، إنها تحدث حجبا كثيفة وستائر صفيقة بينكم وبين ربكم وتبعدكم عنه إبعادا، وعليكم بكتاب ربكم، فلا يُعَرِّفكم بربكم إلا هو.